عمارة الفقراء

عمارة الفقراء
حسن فتحي


هناك بليون فرد على الأقل سوف يموتون موتاً مبكراً ويعيشون حياة موقوفة النمو بسبب الإسكان الشائه غير الصحي وغير الاقتصادي

والقرى التقليدية رغم حالتها من عدم الانتظام والقذارة والازدحام التي تجعل الملاحظ الخارجي لا يكاد يرى فيها سوى الفوضى، إلا أنها غالباً تعبر تعبيرات مرهفة حساسة عن النظام الاجتماعي. فروابط القرابة هي وحواجز العداوة كثيراً ما يتم التعبير عنها جغرافياً وانشائياً. ومهما كانت درجة سوء الإسكان فيزيائياً، إلا أن القروي ليستمد من نمطه بعض الراحة، بل وبعض المعنى.

حتى في عالم السرعة والكتل والتجريد، ما من بديل عن الفرد الموهوب الذي يبذل من اهتمامه

ولما كانت مقترحاتي تتعلق أساساً بالفلاح، فإن كتابي مهدى إليه، وكم كنت أود لو كان من المستطاع أن يكون توجيهه مقصوراً عليه، وأني لآمل أنه سيأتي سريعاً ذلك الوقت الذي يستطيع فيه أن يقرأه ويحكم عليه، على أنه ينبغي عليّ في الوقت الحالي أن أوجهه إلى أولئك الذين يضعون رفاهية الفلاح موضع العناية: إلى المهندس المعماري، وإلى المخطط، وإلى عالم الاجتماع، وعالم الأنسان، إلى كل الرسميين المحليين، والقوميين والدوليين الذين يهتمون بالإسكان وبرفاهية الريف، إلى السياسيين والحكومات في كل مكان، وإلى كل فرد يعمل في المساعدة على تشكيل السياسة الرسمية الموجهة للريف

لقد أحسست دائماً بحب عميق للريف، ولكنه كان حباً لتصور، وليس لشيء أعرفه حقاً.

إن من يكون عليهم أن يحولوا الريف لن يستطيعوا القيام بذلك بناء على توجيهات عالية تصدر من المكاتب التوظيفية في القاهرة، وإنما سيكون عليهم أن يحبوا الفلاح بما يكفي لأن يعيشوا معه.

كل شعب مما أنتج معماراً يطور أشكاله المحببة له هو نفسه، والتي تخص هذا الشعب مثلما تخصه لغته، أو ملبسه، أو فنونه الشعبية. وقبل انهيار جبهات الحضارة في القرن الماضي. كان هناك في العالم كله أشكال وتفاصيل محلية متميزة للمعمار، وكانت بنايات كل موقع محلي بمثابة أطفال جميلة لزواج سعيد قد عقد بين خيال أفراد الشعب واحتياجات ريفهم، ولست بالذي يطلب التأمل في المنابع الحقيقية للخصوصية القومية، كما أني لست مؤهلاً لذلك بأي حال – ولكني أود أن أطرح ببساطة أن أشكالاً بعينها تفتن أفراد أحد الشعوب، فيستخدمونها في مجالات جد متنوعة، نابذين فيما يحتمل أي تطبيقات غير ملائمة، وإنما هم يقومون بتطوير لغة بصرية رائعة مفعمة باللون وهي لغة خاصة بهم وتلائم تماماً شخصيتهم ووطنهم.
أحداً لا يستطيع أن ينظر بعين الرضا إلى المباني التي تزرع في بيئة أجنبية عنها

مصر الحديثة ليس فيها أسلوب محلي، فالبصمة مفتقدة وبيوت الأغنياء والفقراء هي على السواء بلا طابع، بلا لهجة مصرية، لقد ضاع التراث، وانفصمنا عن ماضينا منذ قطع محمد علي رأس آخر مملوك.

ومما لا يفهم حتي الآن أن المعمار الحقيقي لا يمكن أن يكون موجوداً إلا في تراث حي، وأن التراث المعماري في مصر هو الآن تقريباً ميت.

وفي ضواحي المدن الإقليمية بالذات حيث تجري أحدث عمليات البناء، يتأكد التصميم القبيح للبيوت بالتنفيذ السيء للعمل، فتبرز صناديق مربعة مضغوطة في أحجام متباينة، بأسلوب تم نقله من أفقر أحياء المتروبوليس، ورغم أنها نصف مكتملة إلا أن التلف ينال منها بالفعل، وقد انتصبت إزاء  بعضها بكل الزوايا، وقد انبثت فوق خلاء رث بطرق غير ممهدة، وأسلاك وصفوف غسيل تتدلى متربة من فوق حظائر الدجاج. وفي أجواء من هذه المجاورات الكابوسية تؤدي الشهوة إلى الاستعراض والحداثة إلى أن يقوم مالك البيت بتبديد نقوده على تجهيزات وتزاويق مبهرجة مما يكون للبيوت الحضرية. بينما هو يضن بمساحة للمعيشة ويحرم نفسه تماماً من فوائد الصنعة الحقيقية، وتجعل المنازل بسبب هذا الموقف متضاغطة. ومتجهة بواجهاتها للخارج، بحيث يكون على الأسرة أن تقوم بتهوية بياضاتها على الشارع العمومي، وتهوية نفسها وهي كشوفه للجيران في شرفاتها القاحلة، بينما لو كان هؤلاء الملاك أقل ابتذالاً في تفكيرهم لأمكنهم الاستفادة بنمط البيت الوحيد الذي يمكن أن يجعل الحياة محتملة في هذه الأماكن، البيت ذو الفناء، فيستمتعون بالمساحة والخصوصية معاً. ولسوء الحظ فإن هذا النوع من معمار الفوضى هو ما يتخذه الفلاحون كنموذج للحداثة

التراث للمجتمع هو المماثل للعادة عند الفرد.

البيت هو الرمز المرئي لهوية الأسرة، وهو أهم ملكية مادية يمكن للإنسان أن يحوزها

الفلاح لا يتحدث عن الفن، إنما هو يصنعه

وهذه القفزة من بيت "يتشكل" إلى بيت "يتهندس" لهي مرحلة طبيعية في تطور البناء، تتبع زيادة ثروة أهل القرية، ولو حدث التغير بصورة طبيعية، فإن المعمار الجديد سوف ينمو ليصبح تراثاً

وكنت أود، لو في الإمكان، أن أمد جسراً على الفجوة التي تفصل المعمار الشعبي عن معمار المهندس المعماري. وكنت أود أن أوفر صلة متينة مرئية بين هذين المعمارين في شكل ملامح مشتركة بينهما معاً، حيث يستطيع القرويون أن يجدوا فيها نقطة ارتكاز كمرجع مألوف لهم يبدؤون منها توسيع فهمهم للجديد، كما يستطيع المهندس المعماري أن يستخدمها ليختبر بها صدق عمله هو نفسه بالنسبة للناس وللمكان

والمهندس المعماري له وضعه الفريد لإحياء إيمان الفلاح بحضارته هو نفسه. وإذا قام المهندس المعماري، بصفته ناقداً يوثق به، بإظهار ما هو جدير بالإجاب في الأشكال المحلية. بل وإذا ذهب لأبعد من ذلك فاستخدمها هو نفسه، فإن الفلاحين سيأخذون في الحال في النظر إلى منتجاتهم في تيه. وما كان فيما مضى يتم تجاهله أو حتى الزراية به، سيصبح فجأة شيئاً يفخر به، ويصبح فوق ذلك شيئاً يستطيع القروي أن يفخر به عن معرفة. وهكذا فإن الحرفي في القرية سيحفز إلى استخدام وتنمية الأشكال التراثية المحلية

كان ينبغي أن تبدو القرية الجديدة في مستقرها في الحقول مثلما يبدو نخيل البلح والدوم. وينبغي أن يعيش فيها قاطنوها بما يكون طبيعياً مثل ارتدائهم لملابسهم

البيت هو مكبَّر الإنسان نفسه ونصبه التذكاري الأبقى

إذا لم يتوافر الإحساس الصادق لمساحة من المساحات، فإنه ما من زينة تستطيع بعدها أن تجعلها شيئاً طبيعياً ينتمي للداخل من التراث

إن العربي يأتي من الصحراء. والصحراء هي التي كونت عاداته ووجهة نظرة وشكلت حضارته. وهو مدين للصحراء ببساطته، وكرمه، وميله للرياضيات والفلك، ناهيك عن بنية عائلته. ولما كانت خبرته بالطبيعة هي خبرة مريرة للغاية، ولما كان سطح الأرض، والمنظر الخلوي الطبيعي هما بالنسبة للعربي عدو قاس، محترق متوهج قاحل، فإنه لا يجد أي وجه للراحة في أن يفتح بيته على الطبيعة في المستوى الأرضي. فوجه الطبيعة الحاني بالنسبة للعربي هو السماء – النقية الطاهرة، الواعدة بالبرودة وبالماء الواهب للحياة من سحبها البيضاء. السماء التي تقزّم حتى من اتساع رحال الصحراء أمام لا نهائية الكون كله المرصع بالنجوم. وما من عجب أن تصبح السماء بالنسبة لساكن الصحراء هي بيت الله.

التأثير في الشخص، إذ يخرج من غرفة في بيته، ثم من خلال فناء البيت، إلى الميدان الأكثر رحابة وإن كان ما زال مطوقاً، في القرية أو المدينة، فإن هذا الترخيم التدريجي فيه سلام وسكينة بأكثر مما في الاندفاع المفاجئ للمرء من خصوصية غرفته الصغيرة إلى صخب الشارع أو إلى الحجم الهائل للحقل

ولو أمكن فحسب أن يكون هناك قانون للتأليف المعماري لساعد ذلك المهندس المعماري على تنظيم ضيائه وظلاله والكتلة والفضاء، والسطح البسيط والمزخرف، بحيث أن التصميم كله يقدم كما ينبغي نفس التتالي من النغمات، والتصعيدات والذروات، وتبادل الفقرات الهادئة والعنيفة، بمثل ما تتفتح سيمفونية بأسرها في يد بتهوفن أو برامز. أما في غياب أي قوانين راسخة للتأليف، فإنه يجب على المهندس المعماري أن يعتمد على إدراكه الخاص لينتج مشاريع مدن تعطيها الانتقالات المقامية البصرية تنوعاً وجمالاً دائمين من داخل توحد شامل في التصور. وتصميم كهذا لهو المثال الذي يخلق، أو على الأقل يثبت، القواعد التي لم تكتب بعد للهارمونية البصرية.

أما تصميم المدرسة فيجب أن يتناوله المهندس المعماري كما يتناول تصميم مسجد أو كنيسة. لأنها من نفس النوعية من البناء. فالمدرسة إنما هي لتنمو فيها روح الأطفال، ويجب أن يكون البناء بحيث يدعوهم إلى التحليق، وليس إلى التقلص كما يفعل بهم حذاء صيني. والمهندس المعماري بخطوطه المصيرية المعدودة التي يخطها على لوحة رسمه، يصدر قراراً بمدى ما سيكون للخيال من حدود، وللعقل من سلام، قرار بالوضع الإنساني لأجيال قادمة. وطالما ظلت مدرسته قائمة، فإن جدرانها ونوافذها تظل تتحدث إلى الأطفال الصغار في سنوات عمرهم المستهدفة أقصى الاستهداف. إن عليه واجباً خطيراً بأن يخلق من هذا البناء مصدراً للحب والتشجيع لهؤلاء الأطفال، ويجب ألا يدع شيئاً يقف في سبيل ذلك.

إذا سوي الحب في عمل، فإنه دائماً سوف يبدو ظاهراً […] ولو نظر إلى الأطفال كما هو حقاً، وليس ككائنات مصغرة للكبار، فإنه لن يمكنه إلا أن يهبهم البناء الذي يحنو عليهم

على أن المهندس المعماري للمدرسة يجب أن يرى العالم بعين الطفل، ليس لمجرد أن يفهم احتياجات الطفل من الحجم والفراغ، بل وأكثر من ذلك، حتى يفهم ما يريح الطفل وما يروعه

إن العشش التي أقامها اللاجئون حول غزة فيها جمال واحترام للذات أكثر مما في أي مكان من نماذج المستعمرات الكئيبة التي أقامتها الهيئات الخيرية الأجنبية

لم تكن القرنة بالنسبة لي هدفاً في ذاتها وإنما هي أول خطوة تجريبية على الطريق إلى تجديد الريف المصري تجديداً كاملاً من خلال إعادة بناء قراه.


وبعد ذلك، وبينما كنت آمل أن نجاح مدرستي في فارس سيبرئ في النهاية طريقة طوب اللبن، إلا أن أحد كبار موظفي مصلحة المباني المدرسية روى مباشرة كذبة متعمدة للوزير، قائلاً أن المدرسة قد تكلفت 19000 جنيه بينما هي في الحقيقية قد تكلفت 6000 جنيه. وعندما علمت بذلك أدركت أن لا مكان لي في مصر. كان من الواضح أن البناء بطوب اللبن يثير عداء فعالاً عند أولئك الناس المهمين. واتفق أن وقع لي مؤخراً مغامرة مع لصين اقتحما منزلي وطعناني، على أنه ليس من المبالغة أن أقول إني أحسست مع هذين اللصين أني آمن أكثر مما أكون مع أولئك الرسميين الذين يستطيعون الكذب لمنع وصول ما فيه فائدة للفلاح

Comments

Popular posts from this blog

Understanding Power: The Indispensable Chomsky

ثورة الأرض

The God Of Small Things