كتاب الرسم والخط
كتاب الرسم والخط
جوزيه ساراماجو
رغم عيوبي التي اعترفت بها هنا، كنت أعرف، دائماً أن الصورة الحقيقية ليست هي الصورة المرسومة. بالإضافة لذلك: آمنت دوماً بمعرفتي (وهي إيماءة ثانية لحالة انفصامي) كيف يجب أن أرسم صورة حقيقية، ودائماً أجبر نفسي على التزام الصمت (أو أفترض أن الصمت هو من يجبرني، خادعاً نفسي بهذه الطريقة لأصير متواطئاً معه) أمام الموديل الأعزل المستسلم لي، هذا الموديل الخجول أو المتظاهر عكس حقيقته، الواثق فقط من النقود التي سيدفعها لي، لكنه خائف بطريقة مضحكة من القوى غير المرئية، التي كانت تهتز بغموض أمام عيني وعلى سطح القماشة. أنا وحدي من كنت أعرف أن اللوحة قد رُسمت بالفعل قبل الجلسة الأولى للتكلّف، وأن كل عملي سيكون إخفاء ما لا يصح إظهاره. أما العيون فتكون عمياء. الرسام وموديله دائماً ما يكونان مرعوبين ومضحكين أمام القماش الأبيض، أحدهما يخاف أن يرى نفسه على حقيقته في اللوحة، والآخر لأنه يعرف أنه لن يكون قادراً أبداً على القيام بهذه الوشاية، أو الأسوء أن يقول لنفسه، إنه إن لم ينجزها فالسبب يرجع لعدم اكتراثه أو لشفقته على موديله.
لدي صورتان على حاملين مختلفين، كل واحدة منهما في غرفتها، الأولى مفتوحة ببساطة لمن يدخل، والثانية مغلقة على سر تجربتي الفاشله، وهاتان الورقتان الصغيرتان هما تجربة أخرى نحو التجربة التي أذهب إليها بيد عارية، دون ألوان ولا فرشاة، فقط هذا الخط، هذا الخيط الذي يلتف وينفك، يتوقف في نقاط، في فواصل، يتنفس في المسافات البيضاء الصغيرة ويتقدم بعد ذلك متعرجاً، كأنه يطوف متاهة كريت، أو أمعاء إس (مهم:هذه المقارنة الأخيرة خطرت ببالي دون أن أتأملها أو أثيرها. وبينما الأولى لم تكن تزيد عن ذكر كلاسيكي تافه، منحتني الثانية، لغرابتها، بعض الآمال: قد يعني القليل أن أقول إنني أحاول جس روح، نفس، قلب، مخ إس، فأحشاؤه هي نوع آخر من السر)، وكما قلت من قبل في الصفحة الأولى، سأذهب من قاعة إلى قاعة، من حامل رسم إلى آخر، لكن سأنتهي دائماً فوق الطاولة الصغيرة، تحت هذا الضوء، مع هذا الخط، أمام هذه الورقة التي تُمزّق باستمرار وأشدها تحت القلم والتي هي، رغم هذا، احتمال الوحيد للخلاص والمعرفة.
كل شيء يكمن في عدم استخدام الكلمة أو استخدامها بإفراط، لكي يشغل تضافر الأصوات البسيط المتكرر المكان أو الفراغ (في فتحة جوية مجردة ومتفجرة، حيث تسكن الكلمة ويختلط معناها) ، والذي يجب أن يكون، إذا كان مفهوماً حقيقياً ومفسراً، عملاً يستغنى به عن البقية.
من يكون هذا الرجل؟ هذا هو بالضبط السؤال الذي ما من رسّام ينبغي عليه توجيهه لنفسه، وأنا فعلتها. سؤال مغامر يشبه من يقول للمحلل النفسي أن يبعد قليلاً، قليلاً فقط، اهتمامه بالمريض، فيستطيعان حينها الاستسلام لجميع الخطوات حتي يصلا إلى حافة الهاوية، لكن بدءاً من هنا سيكون السقوط حتمياً، مخذلاً، مميتاً
ماذا أريد؟ أولاً، ألا أكون مهزوماً. بعدها، إذا كان ممكناً، أن انتصر.
في الرسم هناك دائماً لحظة لا تحتمل فيها اللوحة ضربة فرشاة أخرى، بينما يمكن لهذه السطور أن تطول بشكل لا نهائي.
الآن سأقوم بعمل آخر. اكتشاف كل شيء في حياة إس وروايته كتابةً، التمييز بين الحقيقة الداخلية والقشرة اللامعة بين الجوهر والخندق، بين الظفر المقصوص والجزء المتساقط من الظفر نفسه، بين حدقة لأزرق باهت وإفراز جاف تفضحه المرآة الصباحية في طرف العين. فصل، تقسيم، تشابه، إدراك، فهم. بالضبط ما لم أبلغه أبداً عندما كنت أرسم.
تبقى هذه الأوراق. يبقى هذا الرسم الجديد، الذي وُلد دون أن أتعلمه، ففي كل لحظة حتى عندما أوقف مواصلته، يبدو لي حيلة حلزونية بدائية، وتبدو، عند كل توقف، احتمالية لعدم وجود نهاية.
إنهم أناس خجلون، مرعوبون، مسحوقون مسبقاً من سقوط الكاتدرائيات، التي تشبه السماوات المحمّلة بالظلال، أو من الصالات الكبيرة المزودة بالألغاز. بمجرد وصولهم، سيخضعون للتجربة الكبرى، لاستجواب أبو الهول، لتحدي المتاهة، ولأنهم يأتون من عالم منظم، حيث إشارات مرور في كل مكان، وإشارة التحريم، وتحديدات السرعة، يشعرون أنهم ضائعون في مملكة جديدة حيث هناك حرية الغزو: المعروفة في الاسم الدارج بالعمل الفني.
عانقتك فلاحظت أنك لست هنا
سمعت الباب يفتح ويغلق، صوت يركّب نبرات مفهومة تعني الوداع، ربماً وداعاً، ربما نهارك سعيد، ربما أراك على خير، ثم صوت جاف وسريع لكعوب أحذية على درجات السلم، يتعمّق ويتضاءل في الأربعة طوابق السفلية، يتمدد في الأفق، وفي كل مرة يزداد بعدها، يصير الصوت أصغر، أقصر، مختصراً، وينتهي.
يروقني أن أكون معك.. لا أعتقد أن هناك كلمات أفضل يمكن أن تُقال لأحد.

Comments
Post a Comment