البصيرة

البصيرة
جوزيه ساراماجو



الإهداء: 
إلى بيلار، دائماً. إلى مانويل بانكيث مونتالبان، الذي ما زال حياً

قال الكلب: علينا أن نعوي "كتاب الأصوات" 

ربما هناك من يعبر تائهاً، مكافحاً ضد وابل المطر، محتملاً أسواط الريح، معانقاً ناحية قلبه المستند الذي يعتمده كمواطن له حق التصويت، لكن، كحال الأشياء التي ما زالت في السماء، سيتأخر كثيراً في الوصول، هذا إن لم يعد للبيت ويترك مستقبل المدينة مسلّماً لهؤلاء الذين يركنون السيارات السوداء أمام الباب ومن أمام الباب يأخذونها، بعد أن يقوموا بالواجب المدني لهذا الذي يجلس في المقعد الخلفي. 

ظلت جملة رئيس الوزراء الأخيرة: كونوا شرفاء مع وطنكم، فالوطن يتأملكم، بصحبة دقات الطبول والأبواق الرنينية، جملة ظاهرة التصنّع تقع في أدنى درجات البلاغة الموروثة، وقد أفقدها رونقها كذلك عبارة: فلتصبحوا على خير، التي كانت مزيّفة الأحساس، وهذه هي ميزة الكلمات البسيطة، أنها لا تعرف الخداع. 

إننا لهب صغير ومرتجف مهدد في كل لحظة بالخمود

لدينا هنا، بالتالي، نص الخطاب كاملاً،، ينقصه فقط، لتعذر نقله فنياً، رجفة الصوت، الإيماءة الحزينة، اللمعان الطارئ للدموع التي بالكاد يكبتها.

أتحدث إليكم بقلبي في يدي، أتحدث إليكم بعد أن كسرني الألم الناتج عن البعد غير المفهوم، كأب هجره أولاده الذين يحبهم حباً جماً، فيصير الأب والأولاد تائهين، حيارى، أمام وقوع أحداث غريبة أدت لتدمير الانسجام العائلي السامي، ولا تقولوا إننا نحن، إنني أنا نفسي، إن حكومة الأمة، بنوابها المنتخبين، من فارق الشعب. حقاً أننا قد انسحبنا هذا الفجر إلى مدينة أخرى، التي إبتداء من الآن ستكون عاصمة البلاد، حقاً أننا أصدرنا أمراً بالعاصمة التي كانت، ولم تستمر، عاصمة، بفرض حالة الحصار الصارمة، التي بطبيعة الأمر، ستعوق بشدة الحركة المتزنة للعدد السكاني المزدحم الذي يشكل أهمية كبرى ومع هذه الأبعاد الفسيولوجيه والاجتماعية، حقاً أنكم تجدون أنفسكم محاصرين، محاطين، مجبرين على الإقامة داخل محيط المدينة، وأنكم لن تستطيعوا الخروج، وأنكم لو حاولتم ستتعرضون للرد المسلح الفوري، لكن ما لا تستطيعون قوله أبداً إن الذنب ذنب هؤلاء الذين وثقت فيهم الإرادة الشعبية التي عبّرت عن نفسها بحرية من خلال حوار ديمقراطي متوال، سلميو مخلص. أنتم، بالطبع، أنتم المذنبون، أنتم، نعم، أنتم من تخليتم عن النظام القومي وفضّلتم السير في طريق الثورة الملتوي، طريق الفوضى، طريق التحدي المنحرف والشيطاني ضد السلطة الشرعية للبلد الذي له ذاكرة في كل تاريخ الأمم. لا تلومونا ولوموا أنفسكم، ولا تلقوا بالذنب على من اتحدث باسمهم، أفراد الحكومة، هؤلاء الذين طلبوا منكم مرات عديدة، أو بمعنى أدق، ترجوكم وتوسلوا إليكم أن تتراجعوا عن عنادكم الآثم، الذي ظل إلى اليوم، بالرغم من كل الجهود المضنية المبذولة من قبل سلطات الدولة لتطور التحريات، لا يمكن اختراقه لسوء الحظ. لقد كنتم خلال قرون وقرون رأس الدولة وفخر الأمة، لقد كنتم خلال قرون وقرون، في أوقات الأزمات القومية، والمحن الجماعية، شعبنا الذي اعتاد أن يرد النظر صوب هذا الحصن، صوب هذه التلال، متيقناً أنه من هنا سيأتيه الدواء، الكلمة البلسمية، الطريق المستقيم الذي يؤدي للمستقبل، لقد خنتم ذكرى أجدادكم، هذه هي الحقيقة المرّة التي ستظل توخز ضمائركم للأبد، هم شيدوا مجد الأمة، حجراً حجراً، فليصبكم الخزي، أتمنى من كل قلبي أن يكون جنونكم هذا وقتياً، ألا يستمر، أريد أن أفكر أن غداً، هذا الغد الذي أصلي للسماء لكيلا يتأخر كثيراً، سيدخل الندم في قلوبكم برقة وستعودون للتحبب للإتحاد القومي، جذر الجذور، وللشرعية، عائدين بذلك، كالاب الضال، إلى بيت الأب الآن أصبحت مدينتكم بلا قانون. لن تكون لديكم حكومة لتفرض عليكم ما يجب وما لا يجب أن تفعلوه، ما يجب وما لا يجب أن تكون عليه تصرفاتكم، ستكون الشوارع شوارعكم، ملككم، استخدموها كما يحلو لكم، فلن تجدوا أية سلطة أمامكم تقطع عليكم طريقكم أو تسدي إليكم النصيحة، لكن أيضاً، وانصتوا جيداً لما أقوله لكم، لن يكون لديكم سلطة تحميكم من اللصوص والمغتصبين والمغتالين، فهذه هي الحرية التي اخترتموها، فهنيئاً لكم، ربما تعتقدون، في ضلال الوهم، إنكم، باستسلامكم لأهوائكم ولنزواتكم الحرّة، ستكونون قادرين على تنظيم أنفسكم بشكل أفضل وبشكل أفضل ستدافعون عن حياتكم مما وضعته الوسائل القديمة والقوانين القديمة من أجل صالحكم. يال من خطأ فادح! عن قريب ستجدون أنفسكم مجبرين على تعيين رؤساء يحكمونكم، إن لم يكونوا هم من أقاموا بفظاعة الفوضى التي لا مناص منها والتي سقطتم فيها، وسيفرضون عليكم قانونهم. حينها ستنتبهون للبعد التراجيدي لخداعكم. ربما ستثورون مثلما حدث في زمن القهر التسلطي، مثلما حدث في زمن الديكتاتوريات المشئوم، لكن، لا تعيشوا في الأوهام، سيكبحونكم بنفس العنف، ولن يدعوكم للتصويت لأنه لن تكون هناك انتخابات، وإن وجدت فلن تكون عادلة ولا نظيفة ولا نزيهة مثلما كانت الانتخابات التي ازدريتموها، وسيظل الحال هكذا حتى اليوم الذي فيه يجب أن تعود القوات المسلحة، بصحبتي وصحبة خكومة الأمة الذين قرروا اليوم ترككم للمصير الذي اخترتموه لأنفسكم، ليحرروكم من الحيوانات الخرافية التي أنجبتموها. سيذهب هباءً كل العقاب الذي لاقيتموه، ولا جدوى من عنادكم، وحينها ستدركون، لكن بعد فوات الأون، أن الحقوق كاملة تكمن فقط في الكلمات التي أعلنتها وفي قطعة الورق التي تضمنتها، أياً كان اسم ذلك، دستوراً كان أم قانوناً أم أي تشريع آخر، ستدركون، وأتمنى باقتناع، أن تطبيقه المبالغ فيه والمتهوّر قد يسبب تشنّجاً في الأعمدة الأكثر صلابة للمجتمع المستقر، وستدركون، في النهاية، أن الحس المشترك البسيط يأمر أن نتخذه كرمز صرف لما يمكن أن يكون، إذا وجد، ولا يمكن اتخاذه أبداً كحقيقة ممكنة وفعّالة. إن الإدلاء بصوت أبيض لحق لا يمكن التنازل عنه، لا أحد ينكره عليكم، لكن، كما نحرّك على الأطفال أن يلعبوا بالنار، نحذر أيضاً الشعوب التلاعب بالديناميت. سأنهي خطابيـ أدركوا جيداً صرامة تحذيراتي، ليس كتهديد، وإنما كدواء كاوٍ للتقيّح السياسي المتعفن الذي قد احدثتموه في جوفكم والذي مازلتم تتقلّبون فيه. ستعودوا لرؤيتي وسماع صوتي في اليوم الذي تستحقون فيه العفو الذي، بالرغم من كل شيء، نميل لمنحه لكم، أنا، رئيسكم، والحكومة التي انتخبتموها في أفضل أوقاتكم، والجزء السليم والنقي من شعبنا، هذا الجزء الذي في هذه الأوقات لا تستحقون أن تكونوا مثله. إلى اللقاء حتى هذا اليوم، الوداع، في رعاية الله.

اختفت صورة الرئيس الرصينة والحزينة وحلّ محلها من جديد العلم المرفرف. كان الهواء يحرّكه من هنا لهناك، ومن هناك لهنا، كما لو كان أحمقاً، في نفس الوقت كان النشيد يكرر النغمات الحربية والنبرات العسكرية التي قد تشكلت في الأزمنة الماضية من أمجاد الوطن، بينما تبدو الآن نبرات فارغة.

جميعها كانت تبدو نتاج تفكير نفس العبقري المتخصص في تركيبة العناوين، وهو العمل الذي يعفي بلا تأنيب ضمير بعض القرّاء من قراءة الخبر الذي يأتي بعد ذلك. هكذا ظهرت عناوين عاطفية مثل: لقد أصبحت العاصمة يتيمة، وأخرى ساخرة مثل: لقد انفجرت القنبلة في وجه صانعيها، أو لقد خرج الصوت الأبيض أسود، وثالثة تربوية: الدولة تعطي درساً للعاصمة المتمردة، ورابعة انتقامية: لقد جاءت ساعة تصفية الحسابات، وخامسة تنبؤية؛ كل شيء سيختلف بداية من الآن أو لن تسير الأمور كما كانت بداية من الآن، وسادسة تحذيرية: الفوضوية بالمرصاد واقفة، أو حركات مثيرة للشبهة على الحدود، وسابعة بلاغية: خطاب تاريخي في لحظة تاريخية، وثامنة متملّقة: كرامة الرئيس تتحدى لا مبالاة العاصمة، وتاسعة حربية: الجيش يحاصر المدينة، وعاشرة موضوعية: انسحاب أعضاء السلطة تم بلا حوادث، وحادية عشر رجعية: المجلس المحلي يجب أن يقوم بالسلطة، وثانية عشر تكتيكية: الحل هو اتباع تقليد المجلس المحلي.

لا يمكن أن تطلب من الحكومة ألا تفعل شيئاً في موقف كهذا. 

أما ما يتعلق بالعمدة، فيسعدنا أن نؤكد، مستخدمين نفس كلمات وزير الداخلية، أنه قد رأى النور، لكنه ليس النور الذي يريد هؤلاء الناخبون أن يراه الجميع. إن أكثر الأشياء تلقائية في الدنيا، في هذه الأوقات التي نمضي فيها عمياناً بأياد متشابكة، هو أن نصطدم عند عودتنا للناصية الأقرب برجال ونساء بلغوا نضوج السن ونضوج الرخاء فنجدهم الآن، بعد أن كانوا في الثامنة عشر، يتمتعون ليس فقط بالربيع الباسم كالعادة، وإنما أيضاً، وربما على وجه الخصوص، بالنشاط الثوري بقرارهم تقويض نظام الدولة وتشييد فردوس الأخوة أخيراً مكانه.، نقول إننا نجدهم الآن، برسوخ يشبه الرسوخ القديم، كسالى في إيمانهم وممارساتهم التي، بعد مرورهم بواحدة من الروايات الكثيرة للمذهب المحافظ المعتدل، لتسخين وتليين عضلاتهم، ينتهون بها في مصب الأنانية الأكثر رجعية وبذاءة، بكلمات خالية من التكلّف، هؤلاء الرجال وتلك النسوة، أمام مرآة حياتهم، يبصقون كل يوم على هذا الوجه الذي كان محلاً للبصاق. إن أحد ساسة حزب اليمين، رجل بين الأربعين والخمسين سنة، بعد أن قضى كل عمره تحت مظلة تقليد ينعشه الهواء المكيّف للأوراق المالية ذات القيم والمتذرع بالنسيم العليل للأسواق، جاءه الوحي، أو استنارت بصيرته، فتجلى أمامه المعنى العميق للتمرد السلمي الذي قامت به المدينة التي يقوم بإدارتها، وهو شيء جدير بالتسجيل ويستحق كل الشكر والامتنان، فنحن لم نعتد على ظواهر بهذا الإنفراد

ظهر واحد، بالطبع بنية حسنة، تقدم ليلقي خطبة، لكن هدفه كان مرفوضاً فوراً من قبل المحاطين به. لن تلقى خطب، فكل منا هنا يعاني ما يعانيه من أحزان وكلنا نشعر بالأسى. وكان محقاً من تحدث هكذا بكل وضوح، بالإضاف لذلك، إذا كانت هذه هي فكرة الخطيب الخافق، فمن المستحيل أن يؤدي بطلاقة الثناء الجنائزي لسبعة وعشرين شخصاً، بينهم الرجال والنساء، بالإضافة لطفل لم تبدأ قصته بعد. إن الجنود المجهولين لا يحتاجون للأسماء التي استخدموها في حياتهم، فكل أسماء الشرف، التي يستحقونها والملائمة لهم، تستعار لهم، هذا رائع، وهذا مناسب، أما هؤلاء الموتى، الذين لم يتعرف على أغلبهم، واثنان وثلاثة منهم بلا بطاقة هوية، إن أرادوا شيئاً فهو ببساطة أن يتركوهم في سلام. ولهؤلاء القراء المدققين، الذين يهمهم الترتيب الجيد للقصة، والذين يرغبون في معرفة لماذا لم يعملوا للموتى تحاليل دي إن إيه وهي تجارب عادية ولا غنى عنها، لا نستطيع سوى أن نجيبهم الإجابة النزية بعدم معرفتنا، بالرغم من أننا نسمح لأنفسنا أن نتخيل أن هذا التعبير المعروف والمستهلك: "موتانا" وهو تعبير مشترك، ذات استهلاك روتيني في الخطب الوطنية، قد تم أخذه هنا حرفياً، بمعنى، بما أنهم موتانا، فهم ينتسبون لنا، ولا يمكن تمييز أحد على الآخر، وأن نتيجة الدي إن إيه الذي يحتوي على كل العناصر بما فيها العناصر غير البيولوجية، لن يضيف شيئاً سوى تأكيد الملكية الجماعية التي لم تكن في حاجة لهذا التحليل لتأكيدها.

إن عيب هذا الاستطراد القصصي، المليء كما رأينا بالدخول في موضوعات فرعية مهمة، هو محاولة لفهم أن الأحداث لا تنتظرنا، فبمجرد أن نبدأ في فهم ما يحدث، نجد أن الأحداث تسير مهرولة، ونحن، بدلاً من أن نسردها، كما هو مفروض على حكائي القصص الذين يعرفون تفاصيل مهنتهم، نجد أنفسنا نغوص في الوصف، منسحقين القلب، لما قد وقع بالفعل. 

من المهم أن نضع في اعتبارنا أن كثيراً من تلك العائلات القلقة يعيشون في مبان يعيش فيها أيضاً سكان من الاتجاه السياسي الآخر، الذي يستطيعون بشكل محزن القيام بعمل انتقامي، أقول ذلك حتى أستخدم تعبيراً رقيقاً، يؤدي هذا العمل لصعوبة خروج النازحين، أو بتعبير أشد، يمنعونهم من الخروج كلية. سيثقبون إطارات السيارات، قال أحدهم، سيرفعون المتاريس في بساط السلم، قال آخر. سيوقفون السيارات، شدد الأول. سيحطمون زجاج السيارات، تخيّل الثاني. سيعتدون علينا عندما تطأ قدمنا أرض الشارع، حذر الثاني. سيحتجزون جدنا كرهينة، تنهد آخر كما لو كان يتمنى ذلك بلا وعي.

اللغات دائماً محافظة، تسير دائماً بالأرشيف على عاتقها، وتبغض التجديد. 

عندما كنا نفكر أن الحكومة تركت وسلمت لفعل الزمن، هذا الزمن الذي نسرفه جميعاً ونقطعه، أمر السيطرة وتجفيف الورم الخبيث الذي ولد فجأة في عاصمة الدولة تحت شكل التصويت الأبيض الغامض والكريه الذي، كما يعرف قراؤنا، تجاوز بشكل واسع قدرة كل الأحزاب السياسية الديمقراطية مجتمعة، وهانحن الآن يصلنا خبر غير متوقع ومن أسعد الأخبار التي وصلتنا. الباحث العبقري بمثابرته ذات الحس البوليسي، يتمثل في مأمور ومفتش ومعاون مباحث، ليس لدينا رخصة بكتابة أسمائهم لأسباب أمنية، تمكنوا من كشف الحقيقة حول ما تعتبر بنسبة كبيرة رأس الأفعى التي أشلت، بشكل خطير، الضمير الوطني لأغلبية سكان هذه المدينة خلال فترى الانتخابات. تلك المرأة، زوجة طبيب العيون، التي كانت عجيبة العجائب، وطبقاً لشهود عيان ذوي ثقة، كانت الشخص الوحيد التي لم تصب منذ أربع سنوات بالوباء الفظيع الذي حول بلدنا لبلد العميان، تلك المرأة تعتبرها المباحث المتهمة المفترضة في العمي الجديد، الذي لحسن الحظ لم يخرج من حدود العاصمة، والذي أدخل على الحياة السياسية ونظامنا الديمقراطي أخطر جرثومة للفساد والانحراف. عقل شيطاني واحد، مثل العقل الذي اقترف الجرائم الإنسانية الخطيرة في الماضي، يستطيع أن يكون كما وصف سعادة رئيس الجمهورية، في مصدر موثوق فيه، مثل طوربيد طائش تحت خط الطفو ضد مركب الديمقراطية المقدس، هو كذلك، وإن تم إقامة الدليل القاطع، بدون أدنى شك، كما تشير التحريات، أن زوجة الطبيب مدانة، سيجب حينئذ على سكان المدينة المحترمين للنظام والقانون أن يطالبوا بأقصى عقوبة لهذه المرأة. وسنرى كيف ستسير الأمور. قد تكون هذه المرأة، لانفرادها بعدم الإصابة بالعمي منذ أربع سنوات، تشكّل عنصر دراسة مجم لجماعتنا العلمية، وقد تستحق مكانة بارزة في تاريخ التخصص في طب العيون، لكنها الآن خاضعة لكراهية عامة كعدوى للوطن وللشعب. وبلا شك، يمكن أن نؤكد أنه كان من الأفضل لها أن تصاب بالعمي.

كان يتمنى، داخل شارع ضيق ليختصر الطريق، أن يهبه الحظ مقهى متواضعاً على التقليد القديم، مقهى من هذه المقاهي التي تفتح مبكراً لأن صاحبها ليس لديه شيء آخر ليفعله وحيث يدخل الزبائن ليتحققوا من أن الأشياء تسير على ما يرام في نفس الأماكن الاعتيادية وينبثق من الأبدية رائحة الحلوى

كان يشعر بالإرهاق ، يسير جاراً قدميه، غارقاً في عرقه، مع أن الحرارة لم تكن مرتفعة لهذه الدرجة. لم يكن يستطيع أن يتجول طوال اليوم بهذه الشوارع مهدراً الوقت بدون أن يعرف ما هدفه، فجأة شعر برغبة عارمة في الذهاب لحديقة المرأة ذات الدورق المائل، في الجلوس على حافة النافورة، في تحسس الماء الأخضر بأطراف أصابعه وحمله لفمه، وبعدها، ماذا سأفعل بعدها -سأل نفسه .. بعدها، لا شيء، العودة لمتاهة الشوارع، التوهة، الضياع والعودة للوراء، السير والسير، الأكل بلا شهية، فقط من أجل الحفاظ على الجسد، الدخول للسينما ساعتين، تسلية النفس بمشاهدة مغامرات المرحلة لكوكب المريخ في زمن مازال فيه رجال خضر، والخروج بعينين ترمشان أمام ضوء الظهيرة المشرق، التفكير في دخول سينما أخرى وإهدار ساعتين أخرتين مبحراً عشرين ألف فرسخ بغواصة القبطان نيمو، وبعدها التخلي عن الفكرة لأن شيئاً غريباً قد حدث في المدينة، رجال ونساء يمضون موزعين أوراقاً صغيرة يتوقف المشاه لقراءتها ويحتفظون بها في جيوبهم، والآن يسلمون للمأمور ورقة، إنها نسخة من مقال الجريدة المصادرة، هذا المقال الذي عنوانه، ماذا يتبقى لنعرفه، هذا المقال الذي يروي بين سطوره القصة الحقيقية للأيام الخمسة، حينها لا يستطيع المأمور أن يكبح دموعه، وفي نفس المكان، كما الطفل، يبدأ في البكاء متشنجاً، فتقترب منه امرأة في نفس عمره وتسأل إن كان قد أصابه سوء، إن كان يحتاج مساعدة، ولا يستطيع سوى أن يومئ لها بالنفي، وأنه بخير، وألا تشغل بالها، ويشكرها شكراً جزيلاً، ولأن الصدفة أخياناً تنظم الأمور جيداً، يلقي شخص من طابق عال من نفس المبنى كبشة أوراق، وآخر يفعل نفس الشيء، وثالث كذلك، حتى تستقر فوق الأرض، والناس ترفع ذراعيها لتمسك بها، فتطير الأوراق مثل الحمام ويستريح إحداها على كتف المأمور بعدها تنزلق حتى تصل الأرض. 

تناول المأمور إفطاره بتمهل، متذوقاً حتى آخر الفتات، حتى القهوة باللبن ألذ من الأمس، وعندما وصل للنهاية، بعد أن استرد الجسد صحته، ذكّرته روحه أنه مدان منذ الأمس بزيارة الحديقة والنافورة، الماء الأخضر وسيدة الدورق المائل. "لقد شعرت بالرغبة في الذهاب ولم تذهب". إذاً سأذهب الآن - أجاب المأمور - دفع الحساب، جمع الجرائد وبدأ في السير، كان يستطيع ركوب تاكسي، لكنّه فضل الذهاب سيراً على الأقدام. لم يكن لديه شيء ليفعله وكانت هذه طريقة لإهدار الوقت. عندما وصل للحديقة، جلس على الدكة التي جلس عليها مع زوجة الطبيب وعرف حقاً كلب الدموع. من هذه الدكة كان يرى النافورة وسيدة الدورق المائل. تحت الشجرة كان الجو ما زال به برودة. غطّى ساقيه بأطراف المعطف واستراح متنهداً برضا. جاء من خلفه الرجل ذو ربطة العنق الزرقاء بنقط بيضاء وأطلق عليه طلقة في رأسه. 
بعد ساعتين عقد وزير الداخلية مؤتمراً صحفياً. كان يرتي قميصاً أبيض وربطة عنق سوداء، يرتسم على وجهه الحزن، الحزن العميق. كانت الترابيزة مغطاة بالميكروفونات وكوب ماء كزينة وحيدة. ومن خلفه، معلقاً، علم الوطن يتأمل. "سيداتي سادتي، مساء الخير - قال الوزير - دعوتكم لأعلن لكم خبراً مشئوماً، موت المأمور المكلف بالتحقيق في شبكة المتآمرة التي رئيستها، كما نعرف، تم الإعلان عنها. للأسف لم يكن موتاً طبيعياً، وإنما حداثة اغتيال مع سبق الإرصاد والترصد، وبلا شك قام بها قاتل محترم الإجرام إن وضعنا في اعتبارنا أن طلقة واحدة كانت كافية للقضاء على حياته. يبدو واضحاً أن كل الدلائل تشير إلى أنها عملية إجرامية جديدة من جانب عناصر ثورية مازالت في العاصمة القديمة البائسة، لتقوّض استقرار الوظيفة المثلى للنظام الديمقراطي، وبالتالي، تقوم بعمليات ضد التكامل السياسي والاجتماعي والأخلاقي لوطننا، وبكل هدوء. ولا أعتقد أنه من الضروري أن أبرد أن مثال الكرامة الأعلى الذي قدّمه لنا المأمور المغتال سيجب أن يكون هدفاً، لأبد الآبدين، ليس فقط لتقديرنا المطلق، وإنماً أيضاً لتكريمنا العميق، وسنهبه كأقل تقدير لتضحيته التي أدت لحزننا، بداية من اليوم، مكانا مشرّفاً بين مقابر شهداء الوطن، وهناك حيث يخلدون، يرعوننا دائماً بأعينهم. إن حكومة الأمة، التي أمثلها الآن، تنضم لحداد وحزن كل من يعرفون هذه الصورة الإنسانية المشرفة والتي فقدناها في التو، وفي الوقت نفسه تؤكل لكل المواطنين والمواطنات في هذا البلد أنها لن تتقاعس في الكفاح الذي يكمن في محاربة شر المتآمرين وعدم مسئولية من يعاونهم. مازال أمامي ملحوظتان، أولها أن المفتش والمعاون اللذيين تعاونا في التحري مع المأمور المغتال كانا، بناء على طلبه، مستبعدين من المهمة حتى لا يعرض حياتهما للخطر، الملحوظة الثانية، لأخبركم أنه من أجل الرجل النزيه، المثالي الخدوم لوطنه الذي لسوء الحظ فقدناه، ستدرس الحكومة كل الإمكانيات الشرعية لتتمكن خلال فترة قصيرة، وبصفة استثنائية بعد وفاته، أن تمنحه أعلى الأوسمة التي تميّز بها الدولة أبناءها وبناتها تكريماً لهم. اليوم، سيداتي سادتي، يوماً حزيناً على كل الخيّرين، لكن مسئوليتنا تطالب أن نهدأ ويطمئن قلبنا.

عاجلاً أم آجلاً ستضطر زوجة الطبيب أن تطل من الشرفة. مع ذلك، في حالة إن طال الانتظار كثيراً، الرجل ذو ربطة العنق الزرقاء بنقط بيضاء يحمل معه سلاحاً آخر، النبلة المعروفة، تلك التي تطلق طوباً وتتخصص في كسر زجاج النوافذ، فلا يوجد أحد يسمع كسر زجاجه ولا يأتي مهرولاً ليرى من قام بهذه الهمجية الطفولية. مرت ساعة وزوجة الطبيب لم تظهر، ظلت تبكي، المسكينة، لكنها الآن ستخرج لتأخذ نفسها قليلاً، لا تفتح أية نافذة من التي تطل على الشارع لأنه دائماً هناك أناس ينظرون، تفضّل النوافذ الخلفية، فهي أهدأ بكثير منذ وجد التليفزيون. تقترب المرأة من الحاجز الحديدي، تضع يديها فوقه وتشعر برطوبة المعدن، لم نستطع أن نسألها إن كانت قد سمعت الطلقتين المتتابعتين، ترقد الآن ميتى على الأرضية وينزف دمها قطرات حتى الشفة السفلية. يأتي الكلب مهرولاً من الداخل، يتشممها ويلعق وجه صاحبته، بعدها يرفع رقبته لأعلى ويطلق عواء مرتجفاً يقطعه في الحال طلقة أخرى. حينئذ يسأل رجل أعمى: "أسمعت شيئاً" "ثلاث طلقات - أجابه آخر - لكن كان هناك أيضاً كلب يعوي". "ثم صمت" "ربما أصابته الطلقة الثالثة" "الحمد لله، فأنا أبغض عواء الكلاب". 



Comments

Popular posts from this blog

Understanding Power: The Indispensable Chomsky

ثورة الأرض

The God Of Small Things