رحلتي الفكرية

رحلتي الفكرية 
عبد الوهاب المسيري




كان الترام مكاناً يصلح للقاء المحبين ، أما الآن فهو حلبة صراع داروينية


وبعد عدة سنوات، كتبت تقريراً لكلية الآداب بجامعة الملك سعود بينت فيه أن من أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي انفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي وافتراض أن ثمة معرفة عالمية علينا أن نحصلها متناسين تراثنا وهويتنا. وأشرت إلى أنه لن يمكننا أن نبدع طالما استنمنا لهذه المقولة، فهي تعني المحاولة الدائمة (للحاق بالغرب) - فالعالمي في واقع الأمر هو الغربي, وضربت مثلاً بما يدور في أقسام اللغات الأوروبية في العالم العربي، وكيف أننا ندرسها من وجهة نظر أصحابها وحسب، وهذا يعني سلباً كاملاً للذات تسبب في أن ذكاءنا يتناقص، إذ إننا نحاول عن وعي أو غير وعي أن نستبعد هويتنا الحضارية ومعرفتنا العربية أو الإسلامية وأي أدوات تحليلية مرتبطة بهذه الهوية وبتلك المعرفة. وهذا الاستبعاد هو في جوهره عملية قمع هائلة للذات، تستهلك جزءًا كبيراً من طاقة الإنسان لإنجازها، وإن نجح في إنجازها فإنه يستهلك ما تبقى عنده من طاقة (وأعتقد أن هذا هو ما يحدث للطلبة العرب في حضرة الأساتذة الأجانب. فالرقعة الحضارية المشتركة بينهم لا وجود لها البتة، ومن ثم ينبغي على الطالب العربي أن يصفي ذاته الحضارية تماماً، أي عليه أن يقمع ذاكرته الحضارية، حتى يمكنه أن يبدأ في التحصيل والفهم بدلاً من أن تشكل أرضية يقف عليها ويفهم من خلالها الآخر، بحيث يمكنه أن يستخدم تراثه الذي يطرحه في إدراك ما لا يعرف من خلال مقارنة نقاط الاختلاف والالتقاء)

ولم يولد الإيمان داخلي إلا من خلال رحلة عقلية طويلة ،ولذا فإيماني إيمان تأملي عقلي ، لم تدخل عليه عناصر روحية، فهو إيمان يستند إلى إحساس بعجز المقولات المادية عن تفسير ظاهرة الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية.

وأن أحصل من المال على ما يكفي لأن يحقق لي شيئاً من التحرر من تفاصيل حياتي اليومية ولأن أمول حياتي الفكرية وأنجز مشروعي المعرفي. ولذا أردد دائماً أن المال يشكل عبئاً على البعض ،يفنون حياتهم في جمعه ، أما بالنسبة لي فالمال حرية. 

ووجود الله هو الضمان الوحيد لوجود الإنسان الإنسان ، بجزأيه الطبيعي و غير الطبيعي، فالله هو التركيب اللانهائي المفارق لحدود المعطى النهائي، هو النقطة التي يتطلع إليها الإنسان ويحقق التجاوز من خلالها، ومن ثم بغيابه يتحول العالم إلى مادة طبيعية صماء، خاضعة لقوانين الحركة و الضرورة التي يمكن حصرها و دراستها و التحكم فيها. وينضوي الإنسان تحت نفس النمط، إذ بغياب الله يتحول الإنسان إلى كم مادي يمكن تفسيره في إطار مجموعة من المعادلات الرياضية الميتة التي يمكن معرفتها والتنبؤ بها.

الحضارة الغربية -في تصوري- هي حضارة النموذج العقلاني المادي ( لا العقلاني فحسب كما سأبين فيما بعد). إنجازاتها الضخمة ( التكنولوجيا - العلم - السيطرة على العالم ) هي نتاج رؤيتها المادية ، التي مكنتها من استبعاد كثير من العناصر الأخلاقية والإنسانية ( غير المادية) وذلك لتبسيط الواقع بهدف التحكم فيه (إذ لا يمكن التحكم إلا فيما هو بسيط). ولكن اخفاقاتها التي لا تقل ضخامة (الأزمة البيئية - الحروب العالمية - فقدان الاتجاه و تحول الوسائل إلى غايات - ظهور العبثية و العدمية) هي أيضاً نتاج رؤيتها المادية.

عرف أحد العلماء الغربيين الحداثة بأنها "القدرة على أن يغير الإنسان قيمه بعد إشعار قصير"

وكان شراء الزيتون مشكلة حقيقة ، فتبدأ بشراء برطمان زيتون،وبعد شهر تجد أنه أصبح سوبر زيتون، وبعد شهر آخر يصبح إكسترا سوبر زيتون، وهكذا إلى أن يخيل لك أن حجم الزيتونة أصبح بحجم رأس الإنسان أو ربما الكرة الأرضية. أمام هذه الاختيارات الكثيرة ، كنت أقع في حيرة شديدة. فأجد نفسي مضطراً للاستماع لصوت ما داخلي ( هو عادةً صوت آخر إعلان سمعته) أو أختار أي شيء بشكل عشوائي أو أهاتف زوجتي لتصدر لي الأوامر وتعفيني من مسئولية الاختيار.

تسمى الحداثة "ضد الأساس" [بالإنجليزية : anti- foundationalism ] فهي تتعامل مع عالم بلا أساس ولا مركز ،عالم سائل لا قوام له.

وقد وصفت العقل المادي، في إحدى دراساتي، بأنه يوجد داخل حيز التجربة المادية لا يمكنه تجاوزها، يسري عليه ما يسري على الطبيعة من قوانين، فهو أداة الطبيعة، يمكنه تسييرها بمقدار ما يمكنه الالتحام بها والإذعان لها، وهو عقل محايد لا علاقة له بالأخلاق أو بالأسئلة الكلية (الخاصة بالغرض من وجود الإنسان في الكون)، أو بالمقدس أو بما يتجاوز عالم الحواس الخمس المباشر، فهو موصل جيد لما يدخله من معلومات ومعطيات لا يمكنه أن يتجوزها، ولذا فهو لا يفرز سوى ما يمكن تسميته (أخلاق الصيرورة) أو (منطق الأمر الواقع) أو (موازين القوة). بل إنه معاد للتاريخ ،لأن التاريخ بنية غير طبيعية غير مادية تتسم بالتنوع والتركيم والإبهام لا يمكن لهذا العقل أن يتعامل معها بكفاءة فهو يجيد التعامل مع الأرقام والكم والكثافة والحجم والوزن. ولذا فهو يتجه نحو اختزال الواقع المركب وإلى قوانين عامة تؤكد التماثل والعموملة، ولكنه في الوقت ذاته بسبب التصاقه بعالم الحواس يسقط في التفاصيل، فكأنه يتأرجح بعنف بين العام، الموغل في العمومية، والخاص الموغل في الخصوصية. فهو عقل يشبه أشعة إكس من ناحية، يمكنها أن تعطينا صورة لهيكل الإنسان العظمي لكنها لا يمكنها أن تنقل لنا صورة الوجه الإنساني في أحزانه وأفراحه. ومن ناحية أخرى، يشبه الميكروسكوب الذي يعطينا أدق تفاصيل الخلية دون أن يمكنه أن ينقل لنا الصورة الكلية لهذا العالم. وقد خلصت من كل هذا إلى أن العقل المادي عقل عنصري إمبريالي لأنه يسقط مفهوم الإنسانية المشتركة (فهو مفهوم نهائي مركب لا يمكن قياسه) ولا يجيد إلا اختزال الواقع بهدف توظيفه. 

فالإنسان السعيد المتزن مع نفسه تقل إنتاجيته بعض الشيء ، إذ تصبح أهدافه في الحياة إنسانية

وحين لاحظت تصاعد معدلات الاستهلاكية في المجتمعات الغربية كنت أظن في بداية الأمر أن الهدف من زيادة الاستهلاك هو زيادة الإنتاج، وهي بالفعل كذلك، ولكن حينما تعمقت في الأمر قليلاً وجدت أنها تهدف أيضاً للترشيد في الإطار المادي والضبط الاجتماعي وتنميط المجتمع. فتصعيد معدلات الاستهلاكية، وجعل هذه المعدلات هي المقياس الذي يحدد الإنسان من خلاله مدى سعادته ومكانته الاجتماعية، هو شكل من أشكال الترشيد الجواني. فالاستهلاكية (وصورة الإنسان الاستهلاكي التي تروج لها من خلال الإعلانات التليفزيونية وأفلام السينما) تحدد للفرد كل شيء ولا تتركه يحلم أحلاماً خاصة، ولا أن يسلك سلوكاً خاصاً،. والموضة (أي الأزياء) التي أصبحت واحدة من أهم الصناعات وأضخمها أكبر دليل على ذلك. فالهدف المعلن من تغيير الأزياء هو إعطاء الفرصة للمرأة أن تجدد ملابسها وتغيرها حسبما يروق لها فتعبر عن ذاتها. ولكنك لو دققت في الأمر لوجدت أنه لو أن كل امرأة أطلقت فعلاً لخيالها العنان وعبّرت عن ذاتيتها خارج كل حدود وقيود وسدود فإن مصانع الملابس الحريمي ستتوقف عن الدوران لأن سلوك المرأة لن يمكن التنبؤ به، ولن يمكن للاحتكارات أن تعد خطوط الإنتاج المليونية! هنا تأتي مهمة الأزياء، في أنها تقوم بضبط سلوك المرأة (ترشيده) فتضع لها الخطوط الأساسية التي تتحرك داخلها (الفستان الطويل الأخضر هو الموضة هذا العام، أما العام الذي يليه فهو القصير الأزرق، وفي العام الثالث فإنه إما يكون كذا أو كذا، "ودوخيني يا لمونة"!) وبذلك يمكن التنبؤ ويمكن استيعابها (واستيعاب أحلامها) داخل خطوط الإنتاج. 
بل إن الاستهلاكية تحاول أن تحدد للمرء الغاية من حياته، أن أنها تضع الإنسان وأسرته داخل قوالب محددة، بحيث تصبح كل جوانب حياته الجوانية مضبوطة من خلال حلم الاستهلاك، أي أنه إذا كان الترشيد البراني يشيئه من الخارج، فالترشيد الجواني يشيئه من الداخل، أن أنها عملية ضبط كاملة. وأعتقد أن هذا هوالعمود الفقري لقوة الولايات المتحدة، فهي قد نجحت في ضبط سلوك هذه الملايين وتوجيهها نحو هدف واحد: الإنتاج والاستهلاك، وجعلتها تستبطن هذه المُثُل كهدف نهائي وكمصدر للمعنى، وتسعى من أجلها.
وأعتقد أن المعونات الأجنبية تلعب دوراً مماثلاً بالنسبة لدول العالم الثالث، فهي دول تضم شعوباً ذات أصول إثنية ودينية مختلفة، والأفراد فيها لهم ولاءات متعددة وأحلام مختلفة: فردية وعائلية وقبلية وقومية ودينية. كل هذا يجعل من عملية ضبط مثل هذه المجتمعات مسألة صعبة. ومهمة المعونة الأجنبية هي محاولة ترشيد المجتمع (أي تنميطه) حتى يمكن ضمه إلى السوق العالمي ويتمتع بحرية التجارة، أي أن تصب السلع من الدولة المتقدمة إلى الشعوب التي تم ترشيدها. وهوليوود تلعب دوراً أساسياً في عملية الترشيد هذه، فهي تعيد تشكيل صورة الإنسان وأحلامه.

ببساطة شديدة ، أدركت أن "التقدم الغربي" هو ثمرة نهب العالم الثالث

فصل الحلولية والفصل الذي يسببه (ص ٣٨٦) فيه خلاصة إلى حد كبير


وصعق أستاذي للمرة الثانية( كان أستاذي يصعق دائماً حينما يرى الشر، كان خيراً و قديسا لدرجة تثير الفرح و الحزن في ذات الوقت)

و في عام ١٩٦٥، قرأت لأول مرة أشعار محمود درويش. من أعماق الأرض المحتلة جاءنا صوت أمير شعراء العرب في العصر الحديث.

إن الإنسان الفلسطيني، من خلال شعر درويش، أصبح بالنسبة لي الإنسانية جمعاء، وأصبح النضال الفلسطيني هو رمز الإنسان في عالم واقعي مادي، لا يعرف إلا التكيف الرشيد

Comments

Popular posts from this blog

Understanding Power: The Indispensable Chomsky

ثورة الأرض

The God Of Small Things