موسم الهجرة إلى الشمال

موسم الهجرة إلى الشمال
الطيب صالح

Add caption






كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهاية الأمر


كل شيء حدث قبل لقائي إياها، كان إرهاصًا، و كل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذارًا، لا لقتلها، بل لأكذوبة حياتي.



نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، و لكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه. إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء والخصب، ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان، سميكة اللحى حادة الأشداك، تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة.



وأنا فوق كل شيء مستعمر، إنني الدخيل الذي يجب أن يُبت في أمره. حين جيء لكتشنر بمحمود و د أحمد و هو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعه أتبرا، قال له: "لماذا جئت بلدي تخرب و تنهب؟", الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأرض طأطأ رأسه و لم يقل شيئاً، فليكن أيضاً ذلك شأني معهم. إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، و قعقة سنابك خيل اللنبي و هي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود. و قد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم و في فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلاً. عطيل كان أكذوبة

-------

مقطع مقتبس من كتاب إشكالية التحيز لدكتور عبد الوهاب المسيري











Comments

Popular posts from this blog

Understanding Power: The Indispensable Chomsky

ثورة الأرض

The God Of Small Things