ملامح القاهرة في ألف سنة
ملامح القاهرة في ألف سنة
جمال الغيطاني
إلى أي عمق تاريخي ينأى عمر المقهى القاهري؟ لا يوجد مرجع تاريخي يحدد هذا، ولم تخصص دراسة لرصد تضاريس هذا العالم المتكامل، ولكن الذي لا شك فيه أن المقهى كان جزءًا من الحياة القاهرية. منذ أن اتسعت القاهرة ولم تعد الحياة قاصرة فيها على الخلفاء الفاطميين وحاشيتهم، ولا شك أن المقهى كان موجوداً بشكل مختلف عما نعرفه الآن، فالقهوة التي استمد منها المكان اسمه لم تدخل مصر إلا في القرن السادس عشر الميلادي، قيل أن أول من اهتدى إليها هو أبو بكر بن عبد الله المعروف بالعيدروس، كان يمر في سياحته بشجر البن فاقتات من ثمره حين رآه متروكًا مع كثرته، فوجد فيه تخفيفاً للدماغ واجتلابًا للسهر، وتنشيطًا للعبادة، فاتخذه طعاماً وشراباً، وارشد أتباعه إليه، ثم وصل أبو بكر إلى مصر سنة 905هـ وهكذا أدخل الصوفية شراب القهوة إلى مصر، واختلف الناس حول هذا المشروب الجديد، هل هو حرام أم حلال؟
حرّم البعض القهوة لما رأوه فيها من الضرر، وخالفهم آخرون ومنهم المتصوفة وفي سنة 1037 هـ زار القاهرة الرحالة المغربي أبو بكر العياشي ووصف مجالس شرب القهوة في البيوت، وفي الأماكن المخصصة لها.
وفي مطلع القرن العاشر الهجري حسمت مشكلة تحريم القهوة أو تحليلها، وانتشرت في القاهرة الأماكن التي تقدمها، وأطلق عليها اسم المقاهي، ويبدو لنا أن هذه الأماكن كانت موجودة من قبل ذلك بمئات السنين، ولكن لم يطلق عليها اسم المقاهي لأن القهوة نفسها لم تكن دخلت إلى مصر، كانت هذه الأماكن معدة لتناول المشروبات الأخرى كالحلبة، والكركديه، والقرفة، والزنجبيل، ولم يكن الدخان معروفًا أيضاً حتىالقرن الحادي عشر الهجري ويحدد الإسحاقي المؤرخ المعاصر ظهور الدخان في سنة 1012 هـ، غير أن مشكلة الدخان كانت أكثر، ويذكر الجبرتي في حوادث سنة 1156، أن الوالي العثماني أصدر أوامره بمنع تعاطي الدخان في الشوارع وعلى الدكاكين وأبواب البيوت، ونزل معه الأغا، ونادى بذلك، وشدد بالإنكار والنكال بمن يفعل ذلك، وكان كلما رأى شخصًا بيده آلة الدخان يعاقبه، وربما أطعمه الحجر الذي يوضع فيه الدخان بما فيه من نار
ونلاحظ أن قصة الظاهر بيبرس قد انتشرت وذاعت بعد الغزو العثماني لمصر عام 1517، ويبدو أنها كانت كرد فعل على الهزيمة والجراح التي لحقت بالناس، ونفس الظاهرة نلاحظها النسبة لملحمة "أبو زيد الهلالي" التي انتشرت بعد هزيمة الثورة العرابية، والاحتلال الإنجليزي لمصر، إنه رد فعل الشعب تجاه حدث أليم، وشكل لحماية الذات بواسطة الفن.
ونلاحظ السمة الأولى للأسواق العربية، إنها التقسيم النوعي، فكل سلعة تجدها في مكان معين، فرع بأكمله يتخصص في بضاعة معينة وتتجاور الحوانيت، وكل منها يعرض نفس السلعة، والتنافس قائم لكن تكمن وراءه ما يمكن أن نسميه فلسفة يومية مستمدة من الدين الإيلامي، "الأرزاق على الله"، فلكل تاجر رزقه وزبائنه، ولا يزال هذا التقسيم قائما حتى يومنا هذا فنجد أسواق متخصصة، الحمزاوي الذي يعرض التوابل والعطارة، والفحامين الذي تتجاور فيه متاجر الأحزية، والتمبكشية (تجار الدخان والتمباك)، والخرنفش (تجار الخيش والكهنة القديمة) وتحت الربع (الأدوات المنزلية) والموسكي (الثياب والأدوات المنزلية) والدرب الجديد (الحقائب والمصنوعات الجلدية) وسوق الرويعي (ماكينات الخياطة ولوازم الحياكة) وسور الأزبكية (الكتب القديمة) والصنادقية (الكتب الأزهرية)، والصاغة (الذهب والمجوهرات) والنحاسين (النحاس والألومونيوم)، ودرب سعادة (الأخشاب) والخردة والمنسوجات الشعبية (وكالة البلح)، والتحف والهدايا (خان الخليلي). بل إن السلع غير المشروعة تجد مناطق متخصصة في بيعها

Comments
Post a Comment