بين القصرين
بين القصرين
نجيب محفوظ
ولكن استهانة الحب بالمخاوف عجب قديم
وكثيراً ما قال لنفسه أنه ربما كان في وسع الإرادة القوية أن تتيح لنا اكثر من مستقبل واحد ولكننا لن يكون لنا -مهما أوتينا من إرادة- إلا ماض واحد لا مفر منه ولا مهرب
إنه يحملق في الماضي على استكراه ونفور شديدين، ولكنه وجد المقاومة لا تجدي، كأنما ذلك الماضي دمل يود لو يتجاهله على حين لا تمسك يده عن جسه من آن لآخر
وإذا كان الماضي أحداثاً وذكريات هي بطبعها عرضة للتخلخل أو النسيان فهذا الدكان يقوم شاهداً مجسمًا يكشف مخلخله ويفضح منسيه. وكان كلما تقدم من المنعطف خطوة تقهقر عن الحاضر خطوات طاويا الزمن على رغم إرادته وكأنه يرى في الدكان "غلامًا" يرفع رأسه إلى صاحبها ويقول:"نينة تطلب منك أن تحضر الليلة"، أو كأنه يراه وهو عائد بقرطاس الفاكهة ضاحك الأسارير، أو وهو يلفت نظر أمه في الطريق إلى الرجل فتجذبه من ذراعه بعيدًا أن يلفت إليهما الأنظار، أو وهو ينشج باكيًا أمام منظر الافتراس الوحشي الذي يخلقه خلقاً جديدًا -كلما ورد على ذهنه- على ضوء تجاربه الراهنة فينقلب البشاعة نفسها، طفقت الصور الملتهبة تطارده وهو يجد في الفرار منها، ولإن يتملص من قبضة إحداها حتى يقع في قبضة الأخرى، مطاردة عنيفة وحشية أثارت في أعماقه بركان الحنق والحقد فواصل السير إلى غايته وهو على أسوأ حال "كيف أمرق إلى العطفة وعلى رأسها هذا الدكان .. وهذا الرجل .. أتراه بموقفه القديم منه؟ .. لن ألتفت نحوه، أي قوة ماكرة تغريني بالنظر، أيعرفني إذا التقت عينانا؟! .. إذا بدأ منه أنه عرفني قتلته. ولكن كيف له أن يعرفني؟ .. لا هو ولا أحد من الحي، أحد عشر عاماً، تركته غلامًا وأعود إليه ثورًا. ذا قرنين! .. ثم لا تواتينا القوة على إبادة الحشرات السامة التي لا تنفك تلدغنا؟"
وقد تدرج وجهها بحمرة الخجل، ذلك الدم الذي ينزفه الضمير في الداخل إذا جرحته خطيئة
ثم عادت المرأة إلى مجلسها جنب أمها وما لبثتا أن قلبتا الحديث ظهراً لبطن وهما تبدآن وتعيدان وكأن في تقابلهما جنباً لجنب ما يدعو إلى تأمل قوانين الوراثة العجيبة و قانون الزمن الصارم، كأنهما شخص واحد وصورته المنعكسة في مرآة المستقبل أو نفس الشخص وصورته المنعكسة في مرآة الماضي وبين الأصل والصورة على الحالين ما يشير إلى الصراع الرهيب الناشب بين قوانين الوراثة التي تعمل على التشابه والبقاء من ناحية وبين قوانين الزمن الذي يدفع إلى التغير والنهاية من ناحية أخرى، ذلك الصراع الذي ينجلي عادة من سلسلة من الهزائم تلحق تباعاً بقوانين الوراثة حتى يغدو قصارها أن تؤدي وظيفة متواضعة في نطاق قانون الزمن الصارم.
لقد تساءل ياسين عن ماذا يصنع سعد حيال بلد تعد اليوم بحق سيدة العالم، وهو نفسه لا يدري على وجه التحقيق ماذا سيصنع سعد، ولا يدري ماذا يمكن أن يصنع، ولكنه يشعر بكل ما في قلبه من قوة بأن ثمة ما يجب عمله، ربما لم يجده ماثلاً في عالم الواقع، ولكنه يشعر به كامناً في قلبه ودمه، فما أجدره أن يبرز إلى ضوء الحياة والواقع أو فلتمض الحياة عبثاً من العبث وباطلاً من الأباطيل
نحن نعيش للمستقبل لا للماضي

Comments
Post a Comment