إيقاظ الهمم في شرح الحكم




إيقاظ الهمم في شرح الحكم
ابن عجيبة



كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة على مرآته 

ليس سؤلي من الجنان نعيمًا ... غير اني أحبها لأراكا ~ ابن الفارض  

ادفع وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لا يدفن لا يتم نتاجه 

وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنهإنا لا نحب إلا الله،  
فقال رجلأبى ذلك جدك يا سيدي بقولهجُبِلَت القلوب على حب من أحسن إليها 
فقال الشيخ أبو الحسنإنا لما لم نر محسناً غير الله لم نحب سواه. 

لا صغيرة إذا قابلك عدله، ولا كبيرة إذا واجهك فضله 

إنما المحجوب أنت عن النظر إليه 

إن أردت أن تعرف قدرك عنده فانظر في ماذا يقيمك 

خير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك 

البكاء أن تترك الأمر الذي تبكي عليه ~ أبو سليمان الدارداني 

الحزن على فقدان الطاعة مع عدم النهوض إليها من علامات الاغترار 

إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى فلا تستعزن بعز يفنى 

ما منعك بخلاً ولا عجزًا، وإنما هو حسن نظر لك 

إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه 

لا يخاف عليك أن تلتبس الطرق عليك  وإنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك 

وكم رُمتُ أمراً خِرتَ لي في انصرافه ... فلا زلت لي مني أبرَّ وأرحما 

لولا جميل ستره لم يكن عمل أهلاً للقبول 

فكان العبد في حال طاعته لربه أحوج إلى حلمه وعفوه منه في حال معصيته، لأن الطاعة التي ينشأ عنها العز والاستكبار، أقبح من المعصية التي تورث الذل والافتقار، بل في الحقيقة ليست بطاعة، لأن الطاعة التي تورث الذل والافتقار ، بل في الحقيقة ليست بطاعة، لأن الطاعة التي توجب البعد ليست بطاعة، والمعصية التي توجب القرب ليست بمعصية 
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى استغفر ثلاثاً تعليماً للأمة في شهود التقصير، وإلا فلا استغفار من طاعة، ولا ذنب على المختار صلى الله عليه وسلم 

من أكرمك فإنما أكرم فيك جميل ستره، فالحمد لمن سترك ليس الحمد لمن أكرمك وشكرك 

أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس 

لا يكن طلبك سبباً إلى العطاء منه، فيقل فهمك عنه، وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية 

[لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك]
قلت: قد علمت أن ما سوى الحق خيال وهمي لا حقيقة لوجوده، فإذا أنزل الله بك حاجة كفاقة أو شدة أو غير ذلك من العوارض فأنزلها بالله، واجعلها تحت مشيئة الله، وغب عنها في ذكر الله، ولا تلتفت إلى ما سواه تعلقاً وتملقاً.

[إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه فحسن ظنك به لأجل معاملته معك، فهل عوّدك إلا حسناً وهل أسدى إليك إلا مننا؟]
قلت: الناس في حسن الظن بالله على قسمين: خواص وعوام. أما الخواص فحسن ظنهم بالله تعالى ناشئ عن شهود جماله ورؤية كماله، فحسن ظنهم بالله لا ينقطع سواء واجههم بجماله أو بجلاله، لأن اتصافه تعالى بالرحمة والرأفة والكرم والجود لا ينقطع، فإذا تجلى لهم بجلاله أو قهريته علموا ما في طي ذلك من تمام نعمته وشمول رحمته، فغلب عليهم شهود الرحمة والجمال، فدام حسن ظنهم على كل حال. 
وأما العوام فحسن ظنهم بالله ناشئ عن شهود إحسانه وحسن معاملته وامتنانه، فإذا نزلت بهم قهرية أو شدة نظروا إلى سالم إحسانه وحسن ما أسدى إليهم من حسن لطفه وامتنانه، فقاسوا ما يأتي على ما مضى، فتلقوا ما يرد عليهم بالقبول والرضا، وقد يضعف هذا الظن بضعف النظر والتفكر ويقوى بقوتها، بخلاف الأول فإنه ناشئ عن شهود الوصف والوصف لا يختلف. والثاني ناشئ، عن شهود الفعل وهو يختلف فإن لم تقدر أيها المريد أن تحسن ظنك بالله لشهود وصفه بالرأفة والرحمة التي لا تتخلف فحسن ظنك به لوجود معاملته معك بلطفه ومننه، فهل عودك الحق تعالى إلا براً حسناً ولطفاً جميلاً؟ وهل أسدى إليك: أي أوصل إليك إلا منناً كبيرة ونعماً غزيرة؟

قرأت ليلة: "قل أعوذ برب الناس" إلى أن بلغت فيها "من شر الوسواس". 
فقيل لي: شر الوسواس وسواس يدخل بينك وبين حبيبك، يذكرك أفعالك السيئة وينسيك أفعالك الحسنة، ويكثر عندك ذات الشمال: ويقلل عندك ذات اليمين، ليعدل بك عن حسن الظن بالله، وكرمه إلى سوء الظن بالله ورسوله. فاحذروا هذا الباب فقد أخذ منه خلق كثير من العباد والزهاد وأهل الطاعة والسداد

[العجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه، ويطلب من لا بقاء له معه، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور]
قلت: ما لا انفكاك منه هو الحق تعالى وقضاؤه وقدره، وما لا بقاء له هو الدنيا أو ما تدبره النفس وتقدره، فمن أعجب العجائب أن يفر العبد من مولاه، ويتوجه بالطلب لما سواه، مع أنه لا انفكاك له منه، ولا محيد له عنه، إذ لا وجود له إلا منه، ولا قيام له إلا به، فكيف يهرب منه بترك طلب معرفته، وبالتقرب به بامتثال أمره واجتناب نهيه، ويطلب ما لا بقاء له من حظوظ الدنيا الفانية التي إن لم تزل عنها في الحياة زالت عنك بالممات، فاطلب ما يبقى دون ما يفنى، ولله در قائل: 
هب الدنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى زوال
وما دنياك إلا مثل ظل ... أظلك ثم آذن بارتحال

وهذا كله من عدم فتح البصيرة أو عماها، ولذلك قال تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار" عن إدارك الحس، لأنها ادركته وحجبه به "ولكن تعمى القلوب" عن إدراك المعنى، فلا ترى إلا الحس ولا تحب إلا إياه، ولا تطلب شيئاً سواه: نسأل الله عافيته وهداه

[لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل عنه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون وأن إلى ربك المنتهى]


قلت قد تقدم أن النفس والعقل والقلب والروح والسر أسماء لمسمى واحد وهو اللطيفة الربانية النورانية المودعة في هذا القالب الجسماني الظلماني وإنما أختلفت أسماؤها بأختلاف أحوالها وتنقل أطوارها ومثال ذلك كماء المطر النازل في أصل الشجر ثم يصعد في فروعها فيظهر ورقاً ثم نوراً وأزهاراً ثم يعقد ثمرة ثم ينمو حتى يكمل فالماء واحد وأختلفت أسماؤه بإختلاف أطواره هكذا قال الساحلي في بغيته وقد نظمت في ذلك قصيدة ذكرت في غير هذا الكتاب فعلى هذا يكون تقابل القلب مع النفس بالمحاربة كناية عن صعوبة أنتقال الروح من وطن الظلمة التي هي محل النفس إلى وطن النور الذي هو القلب وما بعده فالقلب يحاربها لينقلها إلى أصلها وهي تتقاعد وتسقط إلى أرض البشرية وشهواتها فالقلب له أنوار الواردات تقربه وتنصره حتى يترقي إلى الحضرة التي هي أصله وفيها كان وطنه وكأنها جنود له من حيث أنه يتقوى بها وينتصر على ظلمة النفس. وهذه الأنوار هي الواردات المتقدمة والنفس لمار كنت إلى الشهوات وأستحلتها صارت كأنها جنود لها وهي ظلمة من حيث أنها حجبتها عن الحق ومنعتها من شهود شموس العرفان فإذا هاجت النفس بجنود ظلماتها وشهواتها إلى معصية أو شهوة رحل إليها القلب بجنود أنواره فيلتحم بينهما القتال فإذا أراد الله عناية عبده ونصره أمد قلبه بجنود الأنوار وقطع عنه من جهة النفس مدد الأغيار فيستولي النور على الظلمة وتولي النفس منهزمة وإذا أراد الله خذلان عبده أمد نفسه بالأغيار وقطع عن قلبه شوارق الأنوار فيأتي المنصور بالأمر على وجهه والمخذول بالشيء على عكسه قال الشيخ زروق رضي الله عنه وأمداد الأنوار ثلاثة أولها يقين لا يخالطه شك ولا ريب الثاني علم تصحبه بصيرة وبيان الثالث الهام يجري معد العيان وإمداد الظلم ثلاثة أولها ضعف اليقين الثاني غلبة الجهل على النفس الثالث والشفقة على النفس وذلك كله أصله الرضي عن النفس وعدمه ومظهره الثلاث المرتبة عليه وهي المعاصي والشهوات والغفلات وأضدادها المتقدمة في الباب الثالث فأفهم اه ولما كان النور هو جند القلب لأنه يكشف عن حقائق الأشياء فيتميز الحق من الباطل فيحق الحق ويبطل الباطل فينتصر القلب بإقباله على الحق على بينة واضحة وتنهزم النفس بأنهزام جند ظلماتها إذ لابقاء للظلمة مع وضوح النور كما أشار إلى ذلك بقوله النور له الكشف والبصيرة لها الحكم والقلب له الأقبال والأدبار قلت النور من حيث هو من شأنه أن يكشف الأمور ويوضحها حتى حسنها من قبيحها ومن شأن البصيرة المفتوحة أن تحكم على الحسن بحسنه وعلى القبيح بقبحه والقلب يقبل على ما يثبت حسنه ويدبر عن ما يثبت قبحه أو تقول يقبل على ما فيه نفعه ويدبر عما فيه ضرره ومثال ذلك رجل دخل بيتاً مظلماً فيه عقارب وحيات وفيه سبائك ذهب وفضة فلا يدري ما يأخذ ولا ما يذر ولا ما فيه نفع ولا ضرر فإذا أدخل فيه مصباحاً رأى ما ينفعه وما يضره وما يأمنه وما يحذره كذلك قلب المؤمن العاصي لا يفرق بين مرارة المعصية وحلاوة الطاعة فإذا استضاء بنور التقوى عرف ما يضره وما ينفعه وفرق بين الحق والباطل قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا أن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً " أي نوراً يفرق بين الحق والباطل وقال تعالى أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس وقال تعالى أفمن شرح الله صدره للأسلام فهو على نور من ربه وهذا النور الذي يكشف الأمور هو نور الواردات المتقدمة الذي هو مطايا القلوب إلى علام الغيوب أولها نور وارد الأنتباه ومن شأنه أن يكشف ظلمة الغفلة ويظهر نور اليقظة فتحكم البصيرة بقبح الغفلة وحسن اليقظة فيقبل القلب حينئذ على ذكر ربه ويدبر عما يغفله عن ربه وهذا هو نور الطالبين الثاني نور وارد الأقبال ومن شأنه أن يكشف ظلمة الأغيار ويظهر بهجة المعارف والأسرار فتحكم البصيرة بضرر الأغيار وحسن الأسرار فيقبل القلب على بهجة الأسرار.

[بسطك كي لا يبقيك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه]
قلت البسط فرح يعتري القلوب أو الأرواح، إما بسبب قرب شهود الحبيب، أو شهود جماله، أو يكشف الحجاب عن أوصاف كماله، وتجلى ذاته لهم، أو بغير سبب، والقبض حزن وضيق يعتري القلب، إما بسبب فوات مرغوب، أو عدم حصول مطلوب، أو بغير سبب، وهما يتعاقبان على السالك تعاقب الليل والنهار، فالعوام إذا غلب عليهم الخوف انقبضوا، وإذا غلب عليهم الرجاء انبسطوا، والخواص إذا تجلى لهم بوصف الجمال انبسطوا، وإذا تجلى لهم بوصف الجلال انقبضوا، وخواص الخواص تستوي عندهم الجلال والجمال، فلا تغيرهم واردات الأحوال، لأنهم بالله ولله لا لشيء سواه، وفالأولون ملكتهم الأحوال، وخواص الخواص مالكون الأحوال، فمن لطفه بك أيها السالك أخرجك من الأغيار، ودفعك إلى حضرة الأسرار، فإذا أخذك القبض وتمكن منك الخوف، وسكنت تحت قهره، وأنست بأمره، أخرج إلى البسط، لئلا يحترق قلبك، ويذوب جسمك، فإذا حبسك البسط وفرحت وأنست بجماله، قبضك لئلا يتركك مع البسط، فتسيء الأدب، وتجر إلى العطب، إذ لا يقف مع الأدب في البسط إلا القليل، وهكذا يسيرك بين شهود جلاله وجماله، فإذا شهدت أثر وصف الجلال انقبضت، وإذا شهدت أثر وصف الجمال انبسطت، ثم يفتح لك الباب، ويرفع بينك وبينه الحجاب، فتتنزه في كمال الذات وشهود الصفات، فتغيب عن أثر الجلال والجمال، بشهود الكبير المتعال، فلا جلاله يحجبك عن جماله، ولا جماله يحجبك عن جلاله، ولا ذاته تحبسك عن صفاته، ولا صفاته تحبسك عن ذاته. تشهد جماله في جلاله وجلاله في جماله، وتشهد ذاته في صفاته وصفاته في ذاته، أخرجك عن شهود أثر الجلال والجمال، لتكون عبداً لله في كل حال، أخرجم عن شيء لتكون حراً من كل شيء، وعبداً له في كل شيء. 

وأعلم أن القبض والبسط لهما آداب فإذا أساء فيهما الأدب طرد إلى الباب أو إلى سياسة الدواب فمن آداب القبض الطمأنينة والوقار والسكون تحت مجاري الأقدار والرجوع إلى الواحد القهار فإن القبض شبيه بالليل والبسط شبيه بالنهار ومن شأن الليل الرقاد والهدو والسكون والحنو فأصبر أيها المريد وأسكن تحت ظلمة ليل القبض حتى تشرق عليك شموس نهار البسط إذ لا بد لليل من تعاقب النهار ولا بد للنهار من تعاقب الليل، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل هذا آداب القبض الذي لا تعرف له سبباً وأما أن عرفت له سبباً فأرجع فيه إلى مسبب الأسباب ولذا بجانب الكريم الوهاب فهل عودك إلا حسناً وهل أسدي إليك إلا منناً فالذي واجهتك منه الأقدار هو الذي عودك حسن الأختيار فالذي أنزل الداء هو الذي بيده الشفاء يا مهموم بنفسه لو ألقيتها إلى الله لأسترحت فما تجده القلوب من الأحزان فلا جل ما منعته من الشهود والعيان والحاصل أن سبب القبض أنما هو النظر للسوي والغفلة عن المولي وأما أهل الصفا فلا يشهدون إلا الصفا ولذلك كان عليه الصلاة السلام يقول من أصابه هم أو غم فليقل الله الله لا أشرك به شيئاً فإن الله يذهب همه وغمه

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي و نور صدري وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله همه و حزنه وأبدله مكانه فرجا ) 

فلا يكون المحب صادقاً في محبته، ولا العارف صادقاً في معرفته حتى يستوي عنده المنع والعطاء، و القبض و البسط، و الفقر و الغنى، و العز و الذل، والمدح والذم ، و الفقد و الوجد، و الحزن و الفرح، فيعرف محبوبه في الجميع كما قال القائل حبيبي ومحبوبي على كل حالة، ويرضى ويسلم له في الجميع. فإن لم يجد ذلك عنده سواء، فلا يدعي مرتبة العشق والهوى فيعرف قدره ولا يتعدى طوره ولا يترامى على مراتب الرجال. فمن أدعي ما ليس فيه فضحته شواهد الأمتحان ولابن الفارض رضي الله عنه:
فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به ... شهيداً وإلا فالغرام له أهل
وقال إبراهيم الخواص رضي الله عنه: لا يصح الفقر للفقير حتى تكون فيه خصلتان: إحداهما الثقة بالله، والأخرى الشكر لله فيما روىى عنه مما ابتلي به غيره من الدنيا.

ثم إذا صح فقرك إليه وتحققت ذلتك بين يديه أتحفك بأنسه وزج بك في حضرة قدسه كما أشار إلى ذلك بقوله متى أوحشك من خلقه فأعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به قلت هذه سنة الله تعالى في خلقه إذا أراد أن يؤنس عبده بذكره ويتحفه بمعرفته أوحشه من خلقه وشغله بخدمته وألهمه ذكره حتى إذا أمتلأ قلبه بالأنوار وتمكن من حلاوة الشهود والأستبصار رده إليهم رحمة لهم لأنه حينئذ لقوته يأخذ منهم ولا يأخذون منه ومثاله في الحس كفتيلة شعلتها فما دامت ضعيفة لا بد أن تحفظها من الريح وتقصد بها المواضع الخفية فإذا أشتد نورها وأشعلتها في الحطب صعدت بها إلى ظهور الجبال فبقدر ما يصيبها الريح يعظم أشتعالها كذلك الفقير ما دام في البداية لا يليق به إلا الوحشة من الخلق والفرار منهم فإذا تمكن في الشهود فلا يليق به حينئذ إلا الخلطة معهم لأنهم لا يضرونه فمتي أوحشك أيها الفقير من خلقه وعزلك عنهم في قلبك فأعلم أنه تعالى أراد أن يؤنسك به ويغنيك بمعرفته فقد كان عليه السلام حين قرب أوان النبوة والرسالة حبب إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء وحكمة ذلك تصفية البواطن من الشواغل والشواغب لتتهيأ لقبول ما تتحمله من الأسرار والمواهب فإذا تطهر من الأكدار ملئ بالأنوار فأشرقت فيه شموس العرفان وتمكن من حضرة الشهود والعيان فهذه سنة الله في أوليائه وأصفيائه يفرون أولاً من الناس حتى يحصل لهم منهم الأياس ثم يردهم الحق إليهم رغماً على أنفهم لمقام الدلالة والأرشاد فينتفع بهم العباد وتحيا بوجودهم البلاد

فإذا طلبت الدخول مع الأحباب، فقق ذليلاً حقيراً بالباب، حتى يرفع بينك وبينهم الحجاب، من دون حيلة منك ولا أسباب، وإنما هو فضل من الكريم الوهاب كما أشار إلى ذلك بقوله: [لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك، ومحو دعاويك لم تصل إليه أبداً، ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه ستر وصفك بوصفه وغطّى نعتك بنعته، فوصلك إليه بما منه إليك لا بما منك إليه]

 [الستر على قسمين : ستر عن المعصية وستر فيها . فالعامة يطلبون من الله تعالى الستر فيها خشية سقوط مرتبتهم عند الخلق والخاصة يطلبون من الله الستر عنها خشية سقوطهم من نظر الملك الحق]
قلت: الستر هو الحفظ والتغطية، وهو في الحس من الآفات والبليات التي توجب هلاكه، وفي المعنى من الفضيحة والمقت وسقوط المرتبة. وهو باعتبار المعصية على قسمين: قسم يقع الستر فيها فلا يفضح صاحبها، وقسم يقع الستر عنها فلا يقع العبد فيها ولو طلبها لما شمله من حفظ الله ورعايته. فالعامة يطلبون الستر من الله فيها مع وقوعها لئلا يسقطوا من عين الخلق، فهم: "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم" . "والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين" 
فمحط نظرهم إنما هو شهود الخلق غائبين عن نظر الملك الحق، وذلك لضعف إيمانهم، وقلة يقينهم، وانطماس بصيرتهم.

وهاهنا ميزان آخر تعرف به العمل الذي فيه حظ النفس وهواها وما لاحظ لها فيه هو أن تعرض عليها الموت وأنت في ذلك العمل فإن رضيت بالموت وهي في ذلك العمل فالعمل صحيح وإن لم ترض بالموت وهي في ذلك العمل فالعمل باطل فكل عمل لا تهزمه الموت فهو صحيح وكل عمل يهزمه الموت فهو باطل يعني فيه الهوى والحظ وكذلك الإنسان يزن نفسه بهذا الميزان ليعرف هل رحل من هذا العالم أو هو باق فيعرض الموت على نفسه في حال عافية وجمال فإذا قبلت الموت ولم تفز منه فليعلم أنه رحل من هذا العالم وإن لم تقبل نفسه الموت وطلبت البقاء ففيه بقية بقدر ما تفر منها، وبالله التوفيق. 

ثم ذكر الشيخ ميزاناً آخر يعرف بع ابتاع الهوى من الحق فقال من علامة اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بالواجبات قلت هذا ميزان آخر وإن شئت قلت هو داخل في الميزان الأول إذ من شأن النفس أن يثقل عليها الواجب لمشاركة الناس لها فيه إذ جل الناس يفعلونته فلا يظهر لها فيه مزية على غيرها وهي أبدا تحب الخصوصية بخلاف النوافل فإنها تبطش إليها وتحب أن تنفرد بها إما لطلب المدح والثناء وأما لطلب الأجور من القصور والحور وهذا كله عند المحققين من الحظوظ الجلية أو الخفية فالمسارعة إلى نوافل الخيرات وفضائل الطابعات مع التكاسل عن الفروض الواجبات من علامة الهوى فيجب على الإنسان أن يقدم الفرض الواجب ولا يقدم عليه إلا ما هو من كماله كالنوافل قبله وبعده إعانة على الحضور فيه فأن حصل الحضور استغنى عن الوسيلة والنافلة الكبرى عندنا هو الاستغراق في مشاهدة مولاه بين فكرة ونظرة أو ما يوصل إلى هذا المقام من مذاكرة أو ذكر ومن رفض الدنيا بحذافيرها وغاب عن نفسه وجنسه فقد جمع الفرائض والنوافل كلها ولو بات نائماً وظل مفطراً وفي بعض أخبار سيدنا داوود عليه السلام قال يا رب أين أجدك فقال له اترك نفسك وتعالى أي غب عنها تجدني أقرب إليك منها وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه عليك بورد واحد وهو إسقاط الهوى ومحبة الملى وبالله التوفيق

ولما كان من شأن النفس الأمارة التكاسل عن الطاعات، قيدها الحق تعالى بأعيان الأوقات، كما أبان ذلك بقوله: [قيد الطاعات بأعيان الأوقات، لئلا يمنعك عنها وجود التسويف، ووسع عليك الوقت ليبقى لك حصة الاختيار] 
قلت: من شأن النفس تسويف العمل وتطويل الأمل: فلو تركت مع اختيارها ما توجهت قط إلى ربها. ولما علم الحق سبحانه أن من عباده لا تنهضه المحبة ولا يسوقه إليه مجرد الرغبة، وإنما تسوقه إليه سلاسل الامتحان بتخويف النيران، أو شبكة الطمع بنعيم الجنان، أوعد من حاد عن طاعته بالعذاب الأليم، ووعد من أطاعه وتقرب إليه بالنعيم المقيم، ثم فرض عليهم ما تظهر فيه طاعته من الأحكام والفرائض، وعين لها أوقاتاً مخصوصة، إذ لو ترك ذلك لاختيار عباده ما أقبل عليه بها إلا القليل من أهل محبته ووداده، ومن رحمته تعالى أن وسع عليهم في تلك الأوقات، فبقى لهم في ذلك ضرب من الاختبار. 

[تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال]
قلت حلاوة الهوى على قسمين هوى النفس، وهوى القلب فهوى النفس يرجع لشهواتها الجسمانية كحلاوة المآكل والمشارب والملابي والمراكب والمناكح والمساكن. وهوى القلب هو شهواته المعنوية كحب الجاه والرياسة والعز والمدح والخصوصية والكرامات وحلاوة الطابعات الحسية، كمقام العباد والزهاد وحلاوة علم الحروف والرسوم. فأما علاج هوى النفس فأمره قريب يمكن علاجه بالفرار من أوطان ذلك، والزهد وصحبة الأخيار. و أما علاج هوى القلب إذا تمكن فهو صعب وهو الداء العضال الذي أعضل الأطباء أي أعجزهم وحبسهم عن علاجه، فلا يزيد الدواء إلا تمكنا وإنما يخرجه وارد إلهي بعناية سابقة بواسطة أو بغير واسطة كما أشار إلى ذلك بقوله "لا يخرج الشهوة من القلب الاخوف مزعج أو شوق مقلق" قلت الشهوة إذا تمكنت من القلب صعب علاجها فلا يمكن خروجها في العادة إلا بوارد قهري جلالي أو جمالي فالوارد الجلالي هو خوف مزعج فيزعجك عن شهوتك ويخرج عن وطنك وأهلك والوارد الجمالي هو شوق مقلق فيقلقك عن مراداتك وحظوظك فينسيك نفسك ويؤنسك بربك ولأجل صعوبة هذا المرض كان أشد حجابا عن الله العلماء ثم العباد ثم الزهاد!! لأن هذه الشهوة خفية لأن صاحبها أضله الله على علم الآية فهم" يحسبون أنهم يحسنون صنعا "

لا تستبطئ النوال، ولكن استبطئ من نفسك وجود الإقبال

النعيم وإن تنوعت مظاهره إنما هو بشهوده واقترابه، والعذاب وإن تنوعت مظاهره إنما هو بوجود حجابه، فسبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم

متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك فأرجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فيك فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم












































Comments

Popular posts from this blog

Understanding Power: The Indispensable Chomsky

ثورة الأرض

The God Of Small Things