منطق الطير

 منطق الطير

العطار


 فيا من لا وجود لسواك في طلعتك، أنت العالم أجمع ولا وجود لأحد غيرك، الروح خفية في الجسد، أما أنت ففي الروح اختفيت.

فيا خفيا في الروح وأنت خارجها، إن كل ما أقوله ليس أنت، وهو أنت أيضاً، ويا من وقف العقل مشدوهاً أمام أعتابك، لقد أفقدته الاتزان في المسير صوبك، بك أرى العالم عياناً بالتمام، ولكن لا أرى أي علامة منك في هذا العالم.

 مرحباً بك أيها الحسون، لتتقدم مسروراً، وكن جاداً في الأمر، وأقبل في سرعة النار، وأحرق كل ما يعترض طريقك مما بك من حرقة؛ ولتغمض عين روحك عن الخلق، وحينما تحرق كل ما يصادفك، فإن نور الحق يزداد كل لحظة أمامك؛ وإن اطلع قلبك على أسرار الحق؛ فلتوقف نفسك على أكر الحق ولكن؛ حتى ولو تصبح طائراً كاملاً في أمر الحق؛ فلن تبقى؛ إنما يبقى الحق وحده، والسلام. 

اجتمعت طيور الدنيا جميعها؛ ما كان منها معروفاً وما هو غير معروف، وقالوا جميعاً: في هذا العصر وذاك الأوان لا تخلو مدينة قط من سلطان. فكيف يخلو إقليمنا من ملك؟ وأنى لنا أن نقطع طريقنا أكثر من هذا بلا ملك؟ ربما لو يساعد بعضنا البعض؛ لتمكنا من السعى في طلب ملك لنا، لأنه إذا خلا إقليم من الملك؛ فما بقى فيه أي نظام أو استتباب لدى الجند. 

كم قضيت السنين أجوب البر والبحر، وكم أصابني قطع الطريق بالاضطراب والدوار. قد جبت الوادي والجبل والقفار، كما طوفت العالم في عهد الطوفان. وسافرت كثيراً مع سليمان، كما جبت عرصات العالم، فعرفت ملكنا، ولكني لا أستطيع السير إليه وحدي، فإذا صحبتموني في سفرتي، أصبحتم أصفياء ذلك الملك وجلساء عتبته. فاطرحوا عنكم معرة الغرور والهوى، وتخلصوا كذلك من آلام كفركم وهمومه. وكل من يملك روحاً تسارع بالتخلص من النفس؛ يكون في طريق الأحبة بريئاً من الحسن والقبح. 

انثروا الارواح وسيروا في الطريق، وامضوا قدماً نحو تلك الأعتاب، فلنا ملك بلا ريب يقيم خلف جبل يقال له جبل قاف. اسمه السيمرغ ملك الطيور، وهو منا قريب، ونحن منه جد بعيدين. مقره يعلوا شجرة عظيمة الارتفاع، ولا يكف أي لسان عن ترديد اسمه. تكتنفه مئات الألوف من الحجب، بعضها من نور، وبعضها من ظلمة، وليس لفرد في كلا العالمين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه، إنه الملك المطلق، المستغرق دائماً في كمال العز، ولكن كيف يطير الفهم إلى حيث يوجد؟ وكيف يصل العلم والعقل إلى حيث يوجد؟ لا طريق إليه، حتى ولو كثر المشتاقون من الخلق إليه، وإذا كان وصفه بعيداً عن فعل الروح الطاهرة نفسها، فليس للعقل قدرة على إدراكه، فلا جرم أن يحار العقل، كما أن الروح تحار عن إدراك صفاته، وهكذا تعمى الأبصار. ما أدرك عالم كماله، وما أرى بصير جماله، ولا طريق لكماله بين البشر، وقد توقف الحجا، فلا سبيل للنظر. 

ولأننا حيارى أمامه فسنسلك الطريق متعثرين، فإن أدركنا منه علامة، فهذا هو العمل، وإلا فبدونه تعتبر الحياة عاراً وكلها خلل.

أقبل البلبل الولهان نشوان ثملاً، ومن كمال العشق كان في حالة لا هي صحو ولا عدم، وكانت صياحته مفعمة بالمعان، وخلف كل معنى كمن عالم من الأسرار، فما أن رفع صوته بأسرار المعاني، حتى ألجم ألسنة الطير جميعها.
قال: ختمت علي أسرار العشق، لذا أمضي ليلي كله ألهج بالعشق، نواح الناي بعض حديثي، ورنين القيثارة الخفيض آهاتي، البساتين غاصة بصيحاتي، وإلى قلوب العشاق سرت خفقات قلبي. في كل زمان أردد سراً جديداً، وفي كل آونة أصدر لحناً جديداً 

ما أن أصاب العشق روحي بجبروته، حتى أصبحت بحراً مضطرب الأمواج، وكل من رأى اضطرابي فقد رشده، ولو كان في غاية الصحو أصبح ثملاً وإن أعدم رؤية الخليل عاماً طويلاً، ألذ بالصمت غير مبيح سري لأحد. ولما كان معشوقي في بداية الربيع ينثر على الدنيا أريج عطره، فبه تكتمل سعادة قلبي، وبطلعته أتخلص من اضطرابي. وإن يعاود معشوقي الاحتجاب، يصبح البلبل المضطرب قليل الكلام، لذا فإن أحداً لا يدرك أسراري، أما الوردة فهي المدركة أسراري بلا ريب. وهكذا أصبحت في عشق الوردة مستغرقاً حتى فنيت عن نفسي فناءًا مطلقاً. وكفاني ما يكمن برأسي من عشق الوردة، وكفاني أن الوردة الجميلة معشوقي، وليس للبلبل طاقة لإدراك السيمرغ، حيث يكفيه عشق الوردة. 

قال له  الهدهد: يا من تعلقت بالصورة، لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميلة. كم أصابك عشق الوردة بالأشواك، وسيطر عليك حيث أصبح كل شغلك، وإن كانت الوردة صاحبة جمال رائع، فسرعان ما يزول حسنها في مدى أسبوع، وعشق شيء مآله الزوال، يصيب العقلاء بالضجر والملال، وإذا كانت بسمة الوردة قد شاقتك، فمع البكاء والنواح طوال الليل والنهار تركتك، فتخل عن الوردة، لأنها في كل ربيع تسخر منك، أفلا تخجل من هذا المسلك؟ 

قال له الهدهد: يا من عدمت السعادة، ليس شهماً من لا يبذل الروح نثاراً، لقد منحك الله الروح لتكون نثاراً، ولكي تسنح لك لحظة مؤاتية مع الحبيب، عليك بطلب ماء الحياة من روح الحبيب، وإلا، فامضي، وما أنت إلا قشر عديم اللب؛ أما إن شئت أن تفدي الحبيب بالروح، فكوني كالرجال، وفي طريق الأحبة انثري الروح. 

قال الهدهد: لا تكن يائساً أيها الغافل، بل اطلب اللطف منه، فهو دائم النوال، فإن تلق ترسك بسهولة وسرعة، تزدد أمورك تعقيداً، يا من تعيش في غفلة. وإذا لم يحظ التائب بالقبول، فكيف يغدق الله عليك نعمائه كل ليل، فإن كنت قد أذنبت، فباب التوبة مفتوح، فاطلب التوبة، فلن يغلق هذا الباب. وإن تقبل في هذا الطريق صادقاً ولو للحظة، تفتح أمامك مئات الفتوح على الدوام. 

وليس هناك بين الخاص والعام، أفضل من مقام العبودية مقام، فكن عبداً، ولا تدّع أكثر من هذا، وكن رجل حق، فالعزة من الله.

قال الهدهد: يا من بقيت أسير الصورة، ويا من ظللت أسير الهم من الرأس إلى القدم، إن عشق الصورة ليس عشق المعرفة، بل هو اللعب بالشهوة، يا حيواني الصفة، إن الجمال الذي يؤول إلى النقصان، يكون في عشقه للرجل كل خسران، والصورة التي تزين بالأخلاط والدم، تسمى بعد ذلك بقمر التم. ولكن إذا بهتت ألوان تلك الصورة؛ لما وجد أقبح منها في هذا العالم. ومن يكن حسنه من الأخلاط والدماء، فأنت تعلم كيف تكون نهاية هذا الحسن. 

ما أكثر ما طفت حول الصورة تبحث عن العيوب، أما الحسن ففي عالم الغيب، فابحث عن الحسن لدى الغيب. وإذا سقط الحجاب من أمام العمل، فلن تبقى الديار ولا الديار، وتنمحي صورة الآفاق جميعها، ويتبدل عز الجميع إلى ذل، وعشق الصورة، يا من يبحث عن المعنى، يعادي بعضه بعضاً. أما من يعشق عالم الغيب، فهذا هو العشق الحق، إذ يخلو من كل عيب، فإن يقطع شيء غير هذا العشق الطريق عليك، فلن يكون هنالك إلا ندم كثير يصيبك. 

كل من ابتلى بعشق الصورة، تحدق به المصائب من هذه الصورة، وسرعان ما تخرج تلك الصورة من يده، فتتملكه الحيرة، ويبقى أسير حزنه وكمده

قال له آخر: يا طاهر الاعتقاد، لم تمر بي لحظة واحدة وفق المراد، فقد قضيت عمري كله في غم دائم، كما كنت بائساً في هذا العالم، وكم أنا مهموم إذ غص قلبي بالأحزان، وأعيش في مأتم دائم بسبب هذه الأحزان. وعشت على الدوام في عجز وحيرة، وأكون كافراً لو أني شعرت بالسرور لحظة، وبسبب كل هذا عشت أسير المشقة، وسيصيبني الفناء والضياع إن تقدمت في الطريق خطوة، فإن لم تكن هذه الهموم قدري، لكان القلب غاية في السرور بهذا السفر، ولكن إذا كان قلبي مفعماً بالأحزان، فماذا أفعل؟ وقد قصصت عليك حالي، فماذا أفعل؟ 

قال الهدهد: أيها المغرور، لقد أقبلت مفتوناً ولهاً، وغرقت من أولك إلى آخرك في الهوى، عليك بالتخلي لحظة عن كل ما هو مرغوب ومكروه في هذه الدنيا، فكل من يتخلى عن هذه الأشياء لحظة، فإنه يتخلى عن عمره بدون ذلك الجنون. إن تتخل عنك الدنيا، فتخل عنها أنت أيضاً، واتركها دون أن تعيرها اهتمامك أبداً. وكل من يربط قلبه بشيء غير باق، فلن يظل قلبه حياً على الإطلاق. 

لذا كان يقول دائماً: لم أبقيتني عمراً طويلاً في خضم هذا العمل، وأطلت انتظاري؟ إنني لست واهناً حتى أطأطئ الهامة كأهل الشهوة أمام أقل رشوة. فقد امتزج عشقي بروحي، لذا لا علم لي بالنار ولا بالجنة. وإن تحرقني كالرماد، فلن يكون لي معين آخر غيرك، وأنا أعرفك أنت، ولا علم لي بالدين أو الكفر، ولن أحيد عن ذلك، وأنت ما أعرف، وأنت مني بمثابة الروح، وروحي خالصة لك. وأنت حاجتي في كلا العالمين، وأنت دنياي في الأولى والآخرة، فحقق لهذا القلب الرقيق كالشعرة حاجته، وكن معي على وفاق، ولو للحظة، وإن ترتفع روحي فمن أجلك، وليس تحررها مني إلا أملاً في وصالك.

قال آخر: يا عالماً بالطريق، إن العين لتسود في هذا الوادي، والطريق يبدو كأنه مليء بالأهوال، فما طول هذا الطريق، أيها الرفيق؟ 

قال الهدهد: إن لنا في الطريق سبعة أودية، فإذا عبرت الأودية السبعة كانت الأعتاب العلية، ولم يعد من سلوك الطريق أحد في الدنيا حتى الآن، لذا فلا أحد يعرف طول هذا الطريق، فإن كانوا يفنون فيه كلية، فكيف يخبرونك بحقيقته، أيها الجاهل؟ 

 أول الأودية هو وادي الطلب، ثم يأتي بعده مباشرة وادي العشق، ثم الوادي الثالث وهو وادي المعرفة، ويأتي بعده الوادي الرابع وهو وادي الاستغناء عن الصفة، وبعده الوادي الخامس وهو وادي التوحيد الطاهر، ثم الوادي السادس وهو وادي الحيرة الصعب، أما الوادي السابع فهو وادي الفقر والفناء، وبعد ذلك لن يكون لك سلوك بالطريق، فإن تدرك نهايته، يتلاشى مسيرك، وإن تكن لك قطرة ماء، فإنها تصبح بحراً خضماً

يا من تكترث، إن هذا الكلام ليس لك، فأنت مرتد، وهذا الذوق لم يتوفر لروحك، فكل من يتطهر، يطرح المادة جانباً، ثم يقامر بروحه في وصال الحبيب، لقد وُعد الآخرون بالغد، أنا هو فيأخذ حسابه في التو والحال، وطالما لم يحرق نفسه دفعة واحدة، فكيف يستطيع التخلص من الآلام والهموم؟ وطالما لم يحرق الجواهر في وجوده، فكيف يمكن أن يضيئ قلبه فرحاً وسروراً


 












 

Comments

Popular posts from this blog

Understanding Power: The Indispensable Chomsky

ثورة الأرض

The God Of Small Things