طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
الإستبداد لغةً: هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة، او الإستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة
الإستبداد في إصطلاح السياسيين: هو تصرف فرد أو جمع في حقوق القوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة. ويستعملون في مقام كلمة إستبداد؛ إستعباد، واعتساف، ووتسلُط، وتحكُّم
الإستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين
أشد مراتب الإستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز علي سلطه دينيه. ولنا أن نقول كلما قل وصف من هذه الأوصاف خفّ الإستباد
من الأمور المقررة طبيعة وتاريخياً، أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذه بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلي التلبس بصفة الإستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدي الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة، والجنود المنظمة
المستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار
يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يُفرّقوا مثلاً بين (الفعّال المُطلَق) والحاكم بأمره، وبين ( لا يُسأل عما يفعل) وغير مسئول، وبين (المنُعِم) وولي النعم، وبين (جلّ شأنه) وجليل الشأن. بناءاً عليه يُعظمون الجبابرة تعظيمهم لله، ويزيدون تعظيمهم علي التعظيم لله، لأنه حليمٌ كريمٌ، ولأن عذابه آجل غائب. وأما انتقام الجبار معاجل حاضر
اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إلا بك
إن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض وتتولد جميعاً من غرض واحد وهو المراد، الا وهو الإستعباد
بين الإستعباد والعلم حرباً دائمة وطراداً مستمراً: يسعي العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا إستسلموا، كما أنهم هم الذين حتي علموا قالوا، وحتي قالوا فعلوا
العوام هم قوة المستبد وقوته. بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم، فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه علي إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون علي رفعته، ويغري بعضهم علي بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا اسرف في اموالهم يقولون: كريم، وإذا قتل منهم ولم يمثّل يعدونه رحيماً، ويسوقهم إلي خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قتلهم كأنهم بغاة
إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علما بما يستحقه منهم، وخوفهم ناشيء عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن توهّم التخاذل فقط، وخوفه علي فقد حياته، وسلطانه، وخوقهم علي لقيمات من النبات وعلي وطن يألفون غيره في أيام، وخوفه علي كل شيء تحت سماء ملكه وخوفهم علي حياة تعيسة فقط
كلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته، وحتي من حاشيته، وحتي من هواجسه وخيالاته
من قواعد المؤرخين المدققين أن أحدهم إذا أراد الموازنه بين مستبدّين، يكتفي أن يوازن درجة ما كانا عليه من الحذر والتحفّظ. و إذا أراد المفاضلة بين عادليين يوازن بين مرتبتي أمنهما في قوميهما
الإستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إراده مستبدة تسعي جهدها في إطفاء نور العلم.
الغالب أن رجال الإستبداد يطاردون رجال العلم، وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء تقلبوا في البلاد، وماتوا غرباء
إن أخوف ما يخافه المستبدون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة
((لا إله إلا الله )) أي لا يستحق الخضوع شيءٌ غير الله
المجد هو إحراز المرء مقام حب وإحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان
أما التمجد: فهو أن ينال المرء جزوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية وبعباره أوضح: هو أن يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبد الأعظم
لا! لا! لا يطلب الفقير معاونة الغني، إنما يرجوه الا يظلمه، ولا يلتمس منه الرحمة، إنما يلتمس العدل
الإستبداد يجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، لأنه لم يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد، وفاقداً حب وطنه، لأنه غير آمن علي الإستقرار فيه ويود لو انتقل منه
أسير الإستبداد لا يملك شيئاً ليحرص علي حفظه لأنه لا يملك مالاً غير معرّض للسلب، ولا يملك شرفاّ غير معرض للإهانة، ولا يملك الجاهل منه آمالاً مستقبلية ليتبعها ويشقي كما العاقل في سبيلها. هذه الحال تجعل الأسير لا يذوق في الكون لذة نعيم غير بعض الملذات اليهيمية. بناء عليه يكون شديد الحرص علي حياته الحيوانيه وإن كانت تعيسة، وكيف لا يحرص عليها وهو لا يعرف غيرها.
الإراده هي أم الأخلاق
لا نية للرقيق في كثير من أحواله، إنما هو تابع لنية مولاه. وقد يعذر الأسير علي فساد أخلاقه، لأن فاقد الخيار غير مؤاخذ عقلاً وشرعاً
الدين بذر جيد لا شبهة فيه، فإذا صادف مغرساً طيباً نبت ونما، وإن صادق أرضاً قاحله مات وفات
يخطيء - والله - من يظن أن أكثر الأسراء، لا سيما منهم الفقراء، لا يشعرون بآلام الأسر، مستدلاً بأنهم لو كانوا يشعرون لبادروا إلي إزالته، والحقيقة في ذلك أنهم يشعرون بأكثر الآم ولكنهم لا يدركون ما هو سببها ومن أين جاءتهم.
يا قول، أناشدكم الله، الا أقول حقاّ إذا قلتُ إنكم لا تحبون الموت، بل تنفرون منه، ولكنكم تجهلون الطريق فتهربون من الموت إلي الموت. والهرب من الموت موت، وطلب الموت حياة، والخوف من التعب تعب، والإقدام علي التعب راحة.
فأناشدكم الله يا مسلمين الا يغركم دين لا تعملون به وإن كان خير دين، ولا تغرنكم أنفسكم بأنكم أمة خير أو خير أمة .. إني لا أري أمامي أمة تعرف حقاً معني لا إله إلا الله، بل أري أمة خبلتها عبادة الظالمين
قواعد رفع الإستبداد
1- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الإستبداد لا تستحق الحرية
2- الإستبداد لا يقاوم بالشدة، بل باللين والتدرج
3- يجب قبل مقاومة الإستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الإستبداد
قرر الحكماء أن الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الإستعداد لقبولها، وأما التي تحصل علي أثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئاً، لأن الثورة غالباً تكتفي بقطع شجرة الإستبداد ولا تقتلع جذورها فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوي مما كانت أولاً
العوام لا يثور غضبهم علي المستبد غالباً إلا عقب أحوال مخصوصه مهيجة فورية منها:
عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبد علي مظلوم يريد الإنتقام لناموسه-

Comments
Post a Comment