الكهف

الكهف
جوزيه ساراماجو




هكذا هي الحياة، إنها مليئة بكلمات لا تستحق النطق بها، أو أنها استحقت ذلك في وقت ما و لم تعد تستحقه، فكل كلمة نقولها تنتزع مكان كلمة أخرى أكثر جدارة منها، وتكون كذلك ليس لذاتها، وإنما للعواقب المترتبة على قولها


نظر سيبريانو ألجور بصمت إلى ابنته، ثم تناول قليلاً من الصلصال ومنحه الشكل الأولي



هناك من يقضي حياته كلها في القراءة دون أن يمضي الى ما هو أبعد من القراءة، هؤلاء يبقون ملتصقين بالصفحات، لا يدركون أن الكلمات ليست سوى أحجار مصفوفة تعترض تيار النهر.



ورجل الاسكيمو لا يقدم كذلك مصاعب تذكر، فالجلود التي تغطيه يمكن تلوينها بلون بين الرمادي والشاحب، تتخلله بضع بقع شديدة البياض، لتظهر كجلد دب مقلوب على قفاه، و المهم هو أن يكون لرجل الاسكيمو وجه رجل اسكيمو، لأن هذا هو سبب مجيئه إلى الدنيا



مما يثبت مرة أخرى أنه علينا ألا نشعر أبداً بالثقة مما نظن أننا عليه، لأنه قد يحدث، في اللحظة نفسها، أن نكون قد صرنا شيئاً آخر مختلفاً.



هذا الخطاب الذي بدا لصاحبه في الساعة الثالثة فجراً أنه يتضمن منطقاً لا يمكن دحضه، تحول إلى خطاب سخيف مع شعاع الصباح الأول، و صار مضحكاً تماماً تحت ضوء الشمس الواشي



أسوأ أسى يابنتي ليس ما نشعر به في لحظته، وإنما ما نشعر به فيما بعد



لقد قلت لكِ إن الأمر بسيط، سنأتي لإنجاز العمل عندما يكون ذلك ضرورياً و بهذه الطريقة لن نضطر إلى إلغاء طلبية الستمائة دمية المتبقية، المسألة تتلخص في الاتفاق مع المركز على مُهل التسليم التي تناسب الطرفين، بالضبط، صفقت الابنة لأبيها، وشكرها الأب على التصفيق، بل يمكن لنا مواصلة التصنيع، قالت مارتا وقد تحمست فجأة لبحر الاحتمالات الإيجابية الذي انفتح أمامها، ولن نضطر إلى إغلاق مشغل الخزف، إذا ما استمر المركز على اهتمامه بالدمى، بالضبط، و من يتحدث عن دمى يمكنه التحدث كذلك عن أفكار أخرى قد تخطر لنا ويقتنعون بها، أو أن نضيف ست دمى أخرى إلى التي لدينا، وهو كذلك، وبينما الأب والأبنة يتذوقان حلاوة الاحتمالات المستقبلية التي بينت لنا مرة أخرى أن الشيطان ليس وراء الباب على الدوام، سنستغل هذا التوقف القصير لنتفحص التأثير الحقيقي و المغزى الحقيقي لتفكير كل منهما، ولهذين التفكيرين اللذين راحا يعبران عن نفسيهما أخيراً بعد ذلك الصمت الطويل. ومع ذلك فقد نبهنا من قبل إلى أنه لن يكون بالإمكان التوصل إلى نتيجة، ولو مؤقتة، مثلما هي النتائج كلها، ما لم نبدأ بتقبل مقدمة أولية قد تكون صادمة في الحقيقة للأرواح السوية وحسنة التكوين، و لكن ذلك لا يجعلها أقل حقيقية، مقدمة أن التفكير المعلن يكون في أحيان كثيرة قد دُفع إلى الخط الأول، إذا صح هذا التعبير، بتفكير آخر قدّر أن انكشافه غير مناسب. ففي حالة سيبريانو ألجور، ليس من الصعب فهم أن بعض تصرفاته الغريبة يحركها القلق الذي ينتابه بشأن نتيجة السبر، وبالتالي فإنه حين ذكّر ابنته بأنهما قادران، حتى و هما يعيشان في المركز، على المجيء للعمل في مشغل الخزف، إنما أراد بذلك ببساطة أن يصرفها عن طلاء الدمى، فقد يحدث أن يأتي غدا أو بعد غد أمر من معاون المدير الباسم، أو من مسئوله الأعلى بإلغاء التسلم، وستشعر هي بالاستياء لتركها العمل في منتصفه، أو ستشعر اذا ما كانت قد أنهته بأنهم قاموا بعمل لا جدوى منه. ما يفاجئ أكثر هو تصرف مارتا، البهجة المندفعة و المثيرة للقلق بطريقة ما حيال الافتراض المشكوك فيه بأن مشغل الخزف سيحافظ على نشاطه، ما لم نتمكن من إقرار علاقة بين هذا السلوك و التفكير الذي تسبب فيه، وهو تفكير ما زال يلاحقها بعناد مذ دخلت إلى الشقة في المركز وأقسمت بينها و بين نفسها ألا تبوح به لأحد، لا لأبيها، بالرغم من وجوده هنا على مقربة كبيرة منها، ولا لزوجها نفسه، فهذا ما ينقصها، بالرغم من حبها الشديد له. فما مر على ذهن مارتا وترسخ عند اجتيازها عتبة باب منزلها الجديد، في ذلك الطابق الرابع والثلاثين الشاهق ذي الأثاث الفاتح والنافذتين الدوارتين اللتين لم تجد الشجاعة للاقتراب منهما، هو أنها لن تتحمل العيش بقية حياتها هناك في الداخل، دون أي يقين آخر سوى كونها زوجة الحارس المقيم مرسيال جاتشو، ودون أي غد سوى الابنة التي تظن أنها تحملها في أحشائها. أو الابن. و قد فكرت في ذلك كله طوال الطريق حتى الوصول إلى بيت مشغل الخزف، وواصلت التفكير بينما هي تعد الغداء، وقد ظلت تفكر و هي تدفع الطعام بالشوكة، لانعدام الشهية، من جانب إلى آخر في الطبق، وواصلت التفكير عندما قالت لأبيها إنه من واجبهما، قبل الانتقال إلى المركز، إنهاء الدمى التي تنتظر في الفرن، وإنهاء الدمى يعني طليها بالأصباغ، و الطلاء تحديداً هو العمل الذي يناسبها القيام به، فهو يمنحها على الأقل ثلاثة أو أربعة أيام من الجلوس تحت شجرة التوت، بينما لقية رابض إلى جانبها، يضحك بفمه المفتوح ولسانه خارجه. لم تكن تطلب ما هو أكثر من ذلك، كما لو أن تلك هي الرغبة الأخيرة اليائسة التي يمليها محكوم عليه بالموت، وفجأة، وبكلمة بسيطة، فتح لها أبوها باب الحرية، يمكنها المجيء من المركز كلما أرادت، يمكنها فتح باب بيتها بمفتاح بيتها، و اللقاء في الأماكن نفسها بكل ما تركته هنا، والدخول إلى مشغل الخزف لتتأكد من أن الصلصال يتمتع بالرطوبة المناسبة، ثم تجلس بعد ذلك إلى الدولاب، وتسلم يديها إلى الصلصال البارد، الآن فقط أدركت أنها تحب هذه الأماكن مثلما تحب الشجرة، إذا كانت قادرة على الحب، جذورها التي تغذيها وترفعها في الفضاء. كان سيبريانو ألجور ينظر إلى ابنته، يقرأ وجهها كما في صفحات كتاب مفتوح، كان قلبه يؤلمه من الخدعة التي فتنها بها إذا ما كانت نتائج استطلاع الرأي سلبية إلى حد ما وجعلت قسم المشتريات في المركز يتخلى عن الدمى إلى الأبد.



ليس هناك ما هو أشد حزنا، ما هو أشد حزنا بصورة بائسة، من عجوز يبكي



كم من المرات نحتاج لأن نذكركم بأن الحب نفسه الذي ينهش هو الذي يتوسل الآن أن ينهشوه، و قد كان الأمر كذلك على الدوام، على الدوام، ولكن هناك مناسبات ننتبه فيها أكثر



إذا فعلا ذلك سيكون تهوراً، يقول سيبريانو ألجور، على ماذا سيعيشان بعد ذلك، هذا السؤال نفسه يمكن أن يوجه إلينا، قالت إساورا، و لا تراني قلقة بسبب ذلك، لأنك تؤمنين بالعناية الإلهية التي تسهر على البائسين، لا، إنني أؤمن بأنه توجد فرص في الحياة يتوجب علينا فيها الانقياد لتيار ما يحدث، كما لو أننا نفتقر إلى القوة اللازمة للمقاومة، ولكننا نكتشف فجأة أن النهر قد تحول لمصلحتنا

Comments

Popular posts from this blog

Understanding Power: The Indispensable Chomsky

ثورة الأرض

The God Of Small Things