العالم من منظور غربي
العالم من منظور غربي
عبد الوهاب المسيري
نماذجي: تعني أنه يعبر عن النموذج بشكل متبلور وأنه ينضوي تحت نمط (ولا يهم إن كان هذا النمط سلبياً أم إيجابياً). أما كلمة "نموذجي" فهي تعني مثال و قدوة حسنة إلى آخر هذه التضمينات الإيجابية.
النموذج المعرفي هو صورة عقلية للعالم تشكل ما يمكن تسميته "خريطة معرفية" ينظر الإنسان من خلالها للواقع. والنموذج لا يوجد جاهزاً في الواقع، فهو نتيجة عملية تجريد عقلية مركبة (تفكيك وتركيب) إذ يقوم العقل بجمع بعض السمات من الواقع فيستبعد بعضها ويبقي البعض الآخر، ثم يقوم بترتيبها بحسب أهميتها ويركبها. بل أحياناً يضخمها بطريقة تجعل العلاقات تشكل ما يتصوره العلاقات الجوهرية في الواقع.
وتسمى هذه النماذج "نماذج إدراكية"، لأن الإنسان يدرك الواقع من خلالها. وتسمى أيضاً "نماذج معرفية" أي أنها عادة ما تحتوي على بعد معرفي (ملي ونهائي). والنماذج الإدراكية والمعرفية تولد إدراكاً مختلفاً من شخص لآخر ومن حضارة لأخرى لنفس الظاهرة.
التقدم، بذلك، يصبح بلا مرجعية أو يصبح مرجعية ذاته، أو الوسيلة التي تحولت إلى غاية، فنحن نتقدم كي نحرز مزيداً من التقدم (وهي عملية لا نهائية) أي أن التقدم ليس حتمياً وحسب وإنما نهائي أيضاً
ويتضح التحيز الغربي الناجم عن التمركز حول الذات في مصطلحين شائعين مثل "الحرب العالمية الأولى" و "الحرب العالمية الثانية". هاتان الحربان كانتا عالميتين من منظور الإنسان الأوروبي وحسب الذي كان يظن أن أوروبا هي العالم (أما ما عدا ذلك فأسواق ومستعمرات). فإذا اندلعت نيران الحرب في أوروبا فهذا يعني أنها اندلعت في العالم بأسره كما يراه الإنسان الغربي. ويلاحظ استمرار هذا الاستخدام في اصطلاحات مثل "المغني العالمي" خوليو مثلا، وهي عبارة تعني في واقع الأمر المغني الإسباني، وحين يقال "يجب أن نرتفع بأدبنا إلى مستوى العالمية" فإن هذا يعني في واقع الأمر يجب أن نصل إلى المستوى الذي يمكن للغرب فيه أن يفهم أدبنا ويترجمه ويعترف به. ونفس الاستخدام يوجد في مصطلحات مثل "الرأي العام العالمي" وهي عبارة تعني في واقع الأمر "الرأي العام الغربي"
والمصطلح -كما أسلفنا- يفيد الاتفاق بين جماعة من الناس على مدلول كلمة، ولذا يقال "اصطلحوا على أمر". فالمصطلح تصالح. ولكن ما العمل إذا كان من سك المصطلح لم يصطلح معنا؟ بل وقام بسكه لتغييبنا نتيجة لخصومته معنا ولأن وجودنا يعني غيابه؟ وهو قد قام بسك مصطلح يضمر مفاهيم وقيماً تتنافى مع مفاهيمنا وقيمنا، ويتبنى نموذجاً تحليلياً معرفياً متحيزاً ضدنا؟ وهذه هي الإشكالية التي تواجهنا بخصوص المصطلحات المستخدمة في العلوم الإنسانية الغربية.
ولأن الخطاب التحليلي الغربي قد تجاهل البعد المعرفي تماماً نجد أنه لا يطرح أسئلة جوهرية بخصوص التقدم ومضمونه الإنساني (على سبيل المثال) ويكتفي بطرح أسئلة إجرائية تنطلق من مفهوم التقدم المادي كمرجعية نهائية من دون تساؤل بخصوص مسلماته وتنطلق منه مثل: كيف نحقق التنمية؟ كيف نحقق التقدم؟ بينما لو تعمق الخطاب التحليلي ووصل إلى المستوى المعرفي، وبدأنا نسأل عن الهدف، لاتضحت مسلمات النموذج، ولأصبح السؤال: ما الهدف من التنمية؟ ما صورة الإنسان المثلى التي يحاول المجتمع أن يصل إليها؟ وما الغاية من التقدم؟ هل التقدم له فعالية على كل من المستويين المادي والإنساني، أم أن فعاليته تنحصر في المستوى المادي وحسب؟ وسنكتشف أن معظم مشروعات التنمية تنبع من نموذج اقتصادي مادي ساذج يتجاهل تركيبة الإنسان ويتحيز للبسيط والكمي.
يمكن الاستفادة من نظريات التنمية الغربية وآلياتها، ولكن بعد أن نضع هدفا إنسانياً للتقدم وللتنمية وبعد أن نعيد تعريفها وندركها من خلال منظوماتنا الأخلاقية، كما فعل الأستاذ عادل حسين الذي عرف "التقدم الإقتصادي" بأنه ليس اللحاق بالغرب، وإنما هو القدرة على تحديد نمط الإستهلاك الملائم بمعايير مستقلة، وبالتالي القدرة على تحديد مضمون النمو الاقتصادي وابتكار التوليفات التكنولوجية اللازمة لإنتاج هذا المضمون. وقد عرف "استقلال نمط الاستهلاك" بأنه التوجه نحو إشباع الحاجات الأساسية لغالبية المواطنين كما يشكلها نمطهم الحضاري.
كما يجب ألا ندعي أن الغرب مسئول عن كل ما حدث لنا.. فعوامل الانهيار والتفكك كانت كامنة في مجتمعاتنا قبل مجيئه، ولذا بدلاً من الحديث عن الاستعمار وحسب، يجب أن نتحدث عن "القابلية للاستعمار" (على حد قول مالك بن نبي)
الإنسان لم يُمنح هذه الأرض ليهزمها ويوظفها ويسخرها لنفعه وحده من دون حدود، وإنما استخلف فيها ممن هو أعظم منه ليعمرها ويستفيد منها داخل حدود، لا ليبددها من دون إدراك لمعنى النعمة.
لكل ما تقدم، فإن العلم البديل لن يحاول التحكم الإمبريالي في العالم كما كان يتمنى الإنسان الغربي، ذلك الذي ظن أن عقله لا محدود، وأنه يمكنه أن يصل إلى المعرفة النهائية الكاملة وأنه وحده في الكون ليهزمه ويسخره، وإنما سيحاول الاستفادة منه والاتزان معه وإعماره والمحافظة عليه. هذا العلم لن يختزل الواقع إلى عناصره الأولية المادية، ولن يصفي الثنائيات الموجودة في الواقع.
يظل حلم التفسير النهائي الشامل قائماً يداعب خيال الإنسان ويغويه.
سننطلق من المقولة التالية: إن الإنسان يقف في مركز الكون والطبيعة، كائن فريد ومركب، لا يمكن رده في كليته إلى ما هو دونه (الطبيعة/المادة) .. ومن أهم علامات تميزه وتفرده، عقله الذي لا يسجل الطبيعة بشكل سلبي وحسب وإنما يعيها ويتفاعل معها بشكل فعال، أي أن عملية الإدراك ليست عملية تسجيل بلهاء وإنما عملية اختيار. ولكل هذا، فإن الإنسان يتمتع بقدر من الاستقلال عن القوانين الطبيعية وبقدر من الحرية، إذ يمكنه النظر والتدبر، ثم الاختيار الأخلاقي الحر المستقل عن قوانين الحركة المادية، وهو قادر على الممارسة التي تستند إلى هذا الاختيار.
وقد يقال إن النموذج البديل سيعبر عن تحيزات عربية إسلامية. وإجابتنا أنه من الحتمي أنه سيفعل ذلك، ولكننا مع هذا لا نرى ضرراً في ذلك. ويمكن تحقيق قدر من الموضوعية عن طريق الإفصاح عن هذه التحيزات.
وحينما أدرس مادة الأدب النقدي فإنني أستخدم كلمة "أستنطق" لأصف علاقتي كناقد بالنص، وقد وجدت أن هذا الفعل يحل مشكلة كبرى وهي مشكلة التفسير: على المعنى الذي يأتي به الناقد هو نتاج رؤيته الذاتية وحسب، يفرضه فرضاً على النص، أو أن المعنى كامن في النص ذاته؟ وهذا تعبير عن إشكالية الذات والموضوع. وباستخدام صيغة "استنطق" الناقد النص يصبح المعنى لا في عقل الناقد ولا في النص ءاته، وإنما نتاج حركة تفاعل بينهما، ولذا يوجد المعنى في نقطة افتراضية تقع بينهما ويلتقيان فيها. فالناقد يقول ما يقول من خلال النص وحده، إذ لا يمكنه القول دون النص ولذا فهو يستنطقه.. والنص لا يبوح ببعض سره إلا من خلال الناقد، فهو لا ينطق بمفرده وإنما يستنطق، فالواحد في حاجة للآخر.
في
إطار النموذج المركب يمكن استخدام المجاز كوسيلة تعبيرية تحليلية مشروعة،
فالمجاز هو اعتراف ضمني بتركيبية العالم واستحالة رده إلى عالم
الطبيعة/المادة الأحادي. والمجاز ليس مجرد زخرفة وإنما هو أداة لغوبة مركبة
طورها الإنسان لتساعده على إدراك حالات إنسانية بعينها لا يمكن للغة
النثرية العادية أن تحيط بها. واستخدام المجاز ليس أمراً جديداً أو غير
مألوف، فنحن حين نتحدث عن "الإنسان الاقتصادي" أو "رجل أوروبا المريض"
نستخدم صوراً مجازية تتسم بقدر من التركيب من وجهة نظر صاحبها كما تتسم
بمقردتها التفسيرية للواقع.
Comments
Post a Comment