مشكاة الأنوار
مشكاة الأنوار
الغزالي
واعلم أن معنى كونه نور السماوات والأرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهر البصرى. فإذا رأيت أنوار الربيع وخضرته مثلاً في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان. وربما ظننت أنك لست ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة. ولقد أصر على هذا قوم فزعموا أن النور لا معنى له، وأنه ليس مع الألوان غير الألوان، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء، وكيف لا وبه تظهر الأشياء، وهو الذى يبصَر في نفسه ويبصَر به غيره كما سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موقع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء الألوان يدرك مع الألوان حتى كأنه لشدة انجلائه لا يدرك، ولشدة ظهوره يخفى. وقد كان الظهور سبب الخفاء.
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شىء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شىء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شىء لا يفارقه ثم يظهر كل شىء، كما أن النور مع كل شىء وبه يظهر. ولكن بقى ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يُتَصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهى الذى به يظهر كل شىء، لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائماً، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة. ولو تصوّر غيبته لانهدت السماوات والأرض. ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن ما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانية خالقها ارتفعارتفعارتفعارتفع التفريق وخفى الطريق: إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد؛ فما لا ضد له ولا تغير له تتشابه الأحوال في الشهادة له. فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه. فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم لإشراق نوره. وربما لم يفهم أيضاً كنه هذا الكلام بعض القاصرين، فيفهم من قولنا "إن الله مع كل شىء كالنور مع الأشياء" أنه في كل مكان؛ تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان. بل لعل الأبعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول إنه قبل كل شىء؛ وإنه فوق كل شىء؛ وإنه مُظهِر كل شىء. والمظهِر لا يفارق المظهَر في معرفة صاحب البصيرة. فهو الذى (و 11ـ ا) نعنى بقولنا إنه مع كل شىء.
الفصل الثاني: في بيان مثال المشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة والزيت والنارومعرفة هذا يستدعى تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود. لكنى أشير إليهما بالرمز والاختصار: أحدهما في بيان سر التمثيل ومنهاجه ووجه ضبط أرواح المعانى بقوالب الأمثلة، ووجه كيفية المناسبة بينها، وكيفية الموازنة بين عالم الشهادة التى منها تتخذ طينة الأمثال، وعالم الملكوت الذى منه تستنزل أرواح المعانى. والثانى في طبقات أرواح الطينة البشرية ومراتب أنوارها؛ فإن هذا المثال مسوق لبيان ذلك؛ إذ قرأ ابن مسعود "مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة" وقرأ أُبّى بن كعب: "مثل نور قلب من آمن".الأول في سر التمثيل ومنهاجه.اعلم أن العالم عالمان: روحانى وجسمانى: وإن شئت قلت: حسى وعقلى؛ وإن شئت علوى وسفلى. والكل متقارب، وإنما تختلف باختلاف الاعتبارات: فإذا اعتبرتهما في أنفسهما قلت جسمانى وروحانى، وإن اعتبرتهما بالإضافة إلى العين المدركة لهما قلت حسى وعقلى. وإن اعتبرتهما بإضافة أحداهما إلى الآخر قلت علوى وسفلى. وربما سميت أحدهما عالم الملك والشهادة والآخر عالم الغيب والملكوت. ومن نظر إلى الحقائق من الألفاظ ربما تحير عند كثرة الألفاظ تخيّل كثرة المعانى. والذى تنكشف له الحقائق (و 11ـ ب) يجعل المعانى أصلاً والألفاظ تابعاً. وأمر الضعيف بالعكس؛ إذ يطلب الحقائق من الألفاظ. وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ؟.وإذ قد عرفت معنى العالمَين فاعلم أن العالم الملكوتى عالم غيب؛ إذ هو غائب عن الأكثرين. والعالم الحسى عالم شهادة إذ يشهده الكافة. والعالم الحسى مَرْقاة إلى العقل. فلو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لانسدَّ طريق الترقي إليه. ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى حضرة الربوبية والقرب من الله تعالى. فلم يقرب من الله تعالى أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس. والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال هو الذى نعنيه بعالم القدس. فإذا اعتبرنا جملته بحيث لا يخرج منه شىء ولا يدخل فيه ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس. وربما سمينا الروح البشرى الذى هو مجرى لوائح القدس "الوادى المقدس". ثم هذه الحظيرة فيها حظائر بعضها أشد إمعاناً في معانى القدس. ولكن لفظ الحظيرة يحيط بجميع طبقاتها. فلا تظنن أن هذه الألفاظ طامات غير معقولة عند أرباب البصائر.
Comments
Post a Comment